علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

البنى المعرفية ومقصلة التفكيك (2)


إيمان شمس الدين

لكن هل ذلك يتنافى مع الفرادة؟ وهل الفرادة تعني انقلابًا على الذات وعلى الأصيل الثابت؟
وما الفرق بين الفرادة والفردانية؟
رفض الأنا كأصيل فرعوني، لا يعني رفض الفرادة، كون الفرادة تكمن في التميز والإبداع الذي يفترض أن يطور من المجتمع ويدفع باتجاه حضاريته. كون تمييز التميز والإبداع لا يكون إلا من خلال التفاعل الاجتماعي ضمن المجتمع، فلا فرادة يمكن وصفها بذلك إلا من خلال مقارنة عمل مع آخر، وإبداع مع آخر. وهذا لا يكون إلا بإعطاء الفرد حقه في العلم وتنمية الذات والتعبير عن مهاراته وخصوصيته وإبداعاته ومن ثم ترجمتها في واقعه المعاش، وهذا يشترط أن تكون منظومة المعايير والقيم قائمة على أساس أصالة الفرد والمجتمع، بحيث لا تتعدى حقوق الفرد على المجتمع ولا العكس.
والفرادة لا تعني الانقلاب على الأصل، بل تعني تطويره وتبييئه، أي مواكبة هذا الأصل للواقع الزماني والمكاني، الفرادة تعني امتلاك قدرة على التميز في تطوير الواقع وتنضيجه، في سوق قابليات الناس لتقبل الحقيقة، في امتلاك المهارة لذلك والقدرة على إصلاح الواقع بفكر حضاري غير متصادم، الفرادة ليس كما تطرحها الحداثة في تحقيق إنجازات كمية ونجاحات متراكمة  لا تصب إلا في صالح الأنا، الفرادة تكمن في تحقيق نجاح نوعي ينعكس على الواقع الاجتماعي وينهض به، حتى لو لم يقدم للشخص أي قيمة مادية، وحتى لو لم يحقق هذا الشخص الشهرة، فالأصل في الفرادة هو النوع لا الكم، ولكن لو انضم النوع إلى الكم فهو نور على نور.

وتتحقق الفرادة وتشتد قوة حينما تترجم في واقع اجتماعي وتحدث تغيير نوعي يدفع بالمجتمع للدول المتحضرة نوعيًّا وكميًّا. وهذا لا يتم إلا بالنقد البناء، ورفض التنميط بكافة أشكاله، ومحاولة القراءة الابتكارية للواقع، وامتلاك قدرة للخروج من الصناديق كافة مذهبية أو اجتماعية أو عصبوية، والتفكير الحر الذي لا يخضع لحسابات البيدر والميدان، كالحزبية والقبلية، أو الارتباط بمصالح مالية أو سياسية أو سلطوية. هي تحرر في الفكرة خارج المألوف والإجماع.
هي حالة نقد مستديم إيجابي للواقع، ومحاولة النهوض به حتى لو كان فهم في عكس التيارات كافة.
الفرادة في خصومة مع التقليد النمطي، وفي اندماج مع النظر والتأمل والخيال، الفرادة لا تتحقق مع المسلمات الكثيرة النمطية القائمة على التقليد، ولا مع اليقينيات المطلقة دون بحث وتنقيب ودليل.
تتحقق الفرادة لا بعنوان التقليد ولا الإخضاع والإذلال، وإنما بفعل التفكير والنظر والإقناع والتأثير، الفرادة لا تعني الأنا ولا فقط الذات، بل تعني النهوض بهذه الذات في سياق نهضة المجتمع والأمة.
أن تحقق الفرادة هي أن تقدم شيئًا جديدًا عجز أقرانك عن تقديمه، شيئًا يحدث التغيير خاصة في واقعك الاجتماعي، وخاصة على مستوى الإدراك والقابليات ومنظومة المعايير والقيم.
نعم لنهتم بذواتنا في تطويرها وتنميتها ماديًّا ومعنويًّا، لكن لا ننسى أننا كأفراد لنا حقوق وعلينا واجبات، فالفرد له أبعاد ولكل بعد ارتباط بالحق والواجب.
فبعد حقيقي هو ذاته التي لها عليه حق في العلم والأخلاق والمعرفة، وبعد حقوقي مرتبط بمنظومته العلائقية. كعلاقته بالله والوالدين والأخوة والأسرة المتكونة من الزوج والزوجة والأبناء والمجتمع والأصدقاء وإلخ. فله عليها حقوق، وعليه اتجاهها واجبات، فلا يمكن أن ينفصل عنها ولا تنفصل عنه خاصة العلاقات الحقيقية التي لا تنفك.

والالتفات لعملية التفكيك البطيء لمنظومتنا المعرفية بعد العولمة، يحتاج إلى وعي وإدراك لكل بنية الحداثة الغربية وبنية الإسلام، لمعرفة الفروقات الجوهرية في البنى الفلسفية لكلا الحضارتين ومن ثم التمييز بينهما تمييزًا مجهريًّا دقيقًا، لنتمكن من الاستفادة من كل التجارب البشرية بطريقة تلاقحية لا تبدل الأصيل الثابت، لكن تطور سياقاتنا المعرفية وأدواتها، وتنهض بفهمنا وإدراكنا بما ينعكس بشكل إيجابي على سعينا نحو التطوير والنهضة في مساراتهما المعرفية السليمة، بعيدًا عن التمييع والتركيب المصطنع.

يرى دوركهايم أنّ تبني مقاربة فردانية للمعرفة، أي الاعتقاد أنّ المعرفة تنطلق من التجربة الفردية، يثير بالضرورة مشكلات يستحيل حلها. ذلك أنّ الأشياء التي يجربها الأفراد تتغير من يوم لآخر ومن لحظة لأخرى. فلا شيء يعيد إنتاج نفسه بصورة متطابقة، كما أنّ مجرى التجربة في حالة ما إذا كان الأفراد لم يكتسبوا بعد مقولات الفكر العامة) يخضع لعملية تطور دائم وتمايز مستمر (بما أنه في تدفق لا يتوقف فضلاً عن ذلك، فحتى وإن كان من الممكن الاعتراف بأنّ التجارب الفردية الخاصة صادقة تجريبياً، فإنّ كل محاولة للتعميم انطلاقاً منها تبقى غير صادقة إذا لم يكن ما أُضِيفَ أثناء عملية التعميم هذه خاصيةً أوليّةً للتجارب الخاصة. لكن ما الذي يميّز في هذه الحالة مقولة عامة عن تجربة مواضيع وأحداث خاصة؟ إذا كانت المقولات العامة شيئاً لا يوجد في التجارب الخاصة المأخوذة كُلّ واحدة على حدة، أي إذا كانت شيئاً أضافه العقل إلى مجموع الكيانات الخاصة، فإنّ الأفكار العامة تخلو من كلّ صدق تجريبي.
إن التفكيك بين الفرد والجماعة وبينه وبين المجتمع هو تعطيل جزئي للعقل وحصره في دائرة الأنا التي تتصف بالمحدودية، وهو دفع للتضارب لا التنافس بين الآراء وتلاقحها، هذا فضلًا عن قتل كثير من القيم والمعايير التي لا تتفاعل إلا في بيئة جماعية اجتماعية وتعطيل لها، وهو ما ينعكس سلبًا على المدى البعيد على السلوك الفردي والاجتماعي أخلاقيًّا ومعنويًّا، ويخلق بعدًا أنانيًّا يقتل روح التفكير بالآخر وروح التعاون، ويخلق حالة من التسابق الأنوي للكسب والشهرة وتحقيق مادي للذات فقط.
ولا ننكر أن المغالاة في العمل الجماعي وتكريس أصالة المجتمع على حساب الفرد، هو قتل للفرادة بحجة الخوف من الفردانية وتضخم الأنا الفرعونية، وتكريس العقل الجمعي والتنميط وتعليب الفكرة بصندوق خاص يكرس من ثقافة القطيع والجنود لحساب الجماعة.
إن ما نصبو إليه هو تحقيق ميزان الاعتدال بين الفرد والمجتمع، وتحقيق الفرادة التي تنهض بالأمة ولا تنهض الأمة إلا بنهوض أفرادها، ولا ينهض الأفراد إلا بتحقيق التعاون على كافة الأصعدة وبكافة المراتب.
فمن يشتغل بحقل الأفكار ويحقق الفرادة في هذا الميدان لا يمكن لفرادته أن تحقق النهضة إلا بالتعاون مع آخرين قادرين على ترجمة فرادته الفكرية في الواقع الاجتماعي لتحدث انزياحات حقيقية في الوعي، وهذا لا يتحقق إلا من خلال ترجمة هذه الأفكار بطريقة تناسب الزمان والمكان وتحاكي الواقع وتعالج إشكالياته.

وقد ذكر مالك بن نبي أن الأمة العربية لا ينقصها الأفكار ولكن ينقصها من يترجم هذه الأفكار إلى مشاريع عمل حقيقية تنهض بهذه الأمة.
لذلك رغم كثرة مراكز الدراسات والأبحاث في الآونة الأخيرة، إلا أنها كثرة عددية كمية لم تحقق كثيرا في عالم النوع والكيف، ولم تحدث ما يجب أن تحدثه في الوعي، والسبب هو تكريس الفردانية النخبوية على حساب الفرادة والعمل الجماعي والاجتماعي.
فبينما نحن نحتاج لمصانع أفكار، نحتاج في ذات الوقت لتعاون هذه المصانع مع المجتمع ومؤسساته المدنية والأهلية لصياغة تلك الأفكار بمشاريع عمل تترجمها وتجعلها فاعلة في واقع الوعي الاجتماعي.
إن الإصرار على عمل جماعي غير منظم وغير مؤسسي، يعتمد في شكله الخارجي على القيادة الرمز المتحققة في فرد يمتلك بعض الكاريزما أو المواصفات الخاصة، هو تكريس للفردانية لكن بظاهر العمل الجماعي، كون هذا النمط من العمل الجماعي الذي يلغي وجود الأفراد لحساب الرمز، شبيهًا إلى حد كبير بالفردانية، لكنه يتلبس لبوس العمل الجماعي، بينما اليوم التحول من هذا النمط القديم في العمل الجماعي إلى العمل المؤسسي الذي تديره شبكة أفراد متخصصين في مجالات مختلفة، وهذه المؤسسة في ذات الوقت لا تلغي الفرد بل تهتم في بنائه وإعطائه مساحات كبيرة في العبير عن ذاتها في داخلها أو في داخل المجتمع.
لذلك نجد اليوم في العالم العربي ومع تكاثر العمل الجماعي وفق النمط القديم القائم على قيادة أحادية فردية، على حساب العمل المؤسسي نجد تسرب عدد كبير من الطاقات الشابة من تلك الجماعات، وقيامهم بمشاريع فردية يستطيعون من خلالها التعبير عن ذاتهم التي تم قمعها بحجة العمل الجماعي الذي تم تشويه معالمه وسيئ استخدامه من قبل المعنيين، بل ممارسته أيضًا.


وتكمن الخطورة في أن تلك الجماعات في أغلبها لا تمتلك منهجًا علميًّا في بناء الفرد وتأهيله للنهوض بالمجتمع، بل تعتمد عليه كطاقة تنفيذية فقط وأغلبهم دون تأهيل، لذلك حينما يتسرب هؤلاء للقيام بمشاريع فردية، فهم لا يمتلكون الصلاحية المعرفية للتصدي والقيام بمشاريع، ويكون غالبًا الهدف هو السعي لإثبات الذات والتعبير عنها فيعتمدون الكم لا النوع، وهي ثقافة كرستها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي التي كرست ثقافة الكم من خلال مراقبة عدد المتابعين ومراقبة ما يريدون وتلبية رغبات المتابعين من قبل الشخص لأجل زيادة عددهم وبالتالي إغراء العدد سيقود الشركات التجارية لهذا الفرد، مما يعني إبرام عقود تجارية دعائية معه للترويج لمنتجاتها، وهنا نصبح أمام معضلات متراكمة، فمن جهة المتصدي غير مؤهل ويلبي رغبات المتابعين مهما كانت سطحية ومنحرفة، ومن ثم تدخل ثقافة الاستهلاك والاستغلال الرأسمالية.
لذلك نحتاج إعادة النظر في آليات العمل الجماعي وفهم مقاصده بشكل أعمق، والنهوض به من خلال بناء مؤسسات أهلية تتصدى للنهوض بالمجتمع، ولكنها في ذات الوقت تمتلك كوادر مدربة ومتخصصة ومؤهلة، حتى لو خشيت تلك المؤسسات تسرب هذه الكوادر المدربة فيما بعد، فعدم تأهيلهم بحجة الخوف من تسربهم بعد امتلاكهم الأدوات، هي حجة خاطئة ونظرة قاصرة، فتسربهم من المؤسسات الأهلية وهم مؤهلين يمتلكون أدوات صحيحة معرفيًّا، أكثر أمانًا للمجتمع من الذين يتسربون دون تأهيل، وهروبًا من سياسات القمع بحجة العمل الجماعي النمطي.

خلاصة
إن مواجهة محاولات تفكيك البنى المعرفية في لاوعي الشعوب لا تكون مواجهات انفعالية، ولا بمحاولات اجتزائية، بل تحتاج دراسة البنى المعرفية للغرب، ومحاولة تفكيكها ومعرفة جذورها وفهمها وهضمها وفق بيئتها وملابساتها، والاستفادة من أدواتها المعرفية، ومن ثم محاولة العودة إلى الذات وإعادة قراءة كثير من النظريات الاجتماعية الإسلامية وتقديم مشروع إسلامي قادر على الموازنة بين الفرد والمجتمع، وعلى تأصيل العمل الجماعي وفق رؤى حديثة قادرة على الحفاظ على حقوق الفرد والمؤسسة دون المساس بأي منهما على حساب الآخر، والأخذ بالحسبان مصلحة المجتمع وأهمية التأهيل المعرفي لمواجهة كل التحديات في هذا الصدد.
هذا فضلًا عن قيم مؤسسات تدعم الفرادة والإبداع، وتعزز من حالة التنافس الصحية بين أفراد المجتمع ومؤسساته، فيما يعود بالنفع على عمارة الأرض بما ينفع الناس.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد