علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

المعرفة : قراءة وتأملات (2)

 

إيمان شمس الدين
أقسام المعرفة:
معارف البشر منحصرة بين مصدرين لا ثالث لهما:
١.العلم الحضوري: وهو العلم بالأشياء دون واسطة أو حكاية.
٢.العلم الحصولي: هو العلم بالأشياء عن طريق الصور الحاكية أي بتوسط أمر آخر.
وهناك ثلاث مراتب للعلم بالموجود في العلم الحصولي والحضوري:
١.العلم بموجودية ذلك الموجود.
٢.معرفة خصائص هذا الموجود سواء كانت معرفة لكل الخصائص أو لبعضها. وسواء كانت مرحلية أو دفعية.
٣.معرفة حقيقة الشيء وذاته: سواء كانت معرفة حقيقة الشيء بتمامه أو جزء من تلك الحقيقة. وهذا خاضع لاعتبارات البيئة والمعطيات العلمية وتوفر كثير من اللوازم الخاصة بهذه المعرفة. لذا غالبًا معرفة حقيقة الأشياء كما هي غير تامة دائمًا.
والعلم الحضوري والحضولي مشتركان في مراتب كاشفية العلم بحيث ينقسم كل منهما إلى:
١.ملتفت إليه؛ 
٢.وشبه ملتفت إليه؛
٣.مغفول عنه.


كما أن كليهما (العلم الحصولي والحضوري) قابلًا للزوال، مع الالتفات إلى أن العلم بذاته هو أمر وجودي ينقسم إلى علم إمكاني وعلم ضروري، والزوال المقصود ينطبق على العلم الإمكاني كونه قابلًا للزوال ذاتًا، فليس كل علم قابل للزوال فاقتضى التنويه، فإدراكنا ومعرفتنا بالحقيقة كما هي ومطابقتها لواقع الأمر، سواء كانت علمًا حصوليًّا أو حضوريًّا هي معرفة غير قابلة للزوال.
فمثلًا إدراكنا بوجود الشمس هو إدراك ومعرفة مطابقة للواقع، وهذه المعرفة لا تزول فالشمس وجود حقيقي خارجي، وإدراكنا لهذا الوجود هو إدراك مطابق للواقع، وزوال هذا الإدراك والمعرفة هو زوال لوجود الشمس الخارجي الحقيقي، وهذا من مصاديق اجتماع النقيضين وهو الوجود والعدم، وهو محال، إذ كيف يجتمع حقيقة وجود الشمس خارجيًّا مع زوال إدراكي بهذه الحقيقة؟ فهو محال.
إن المعرفة سواء كانت حصولية أو حضورية حينما تكون معرفية حقيقية مطابقة للواقع، لا يمكن أن تكون لها حقائق متعددة متناقضة أو متضادة، فالفهم الحصولي والحضوري، إذا كان صحيحًا وحقًّا مطابقًا للواقع لا يمكن افتراض فهم آخر صحيح متناقض أو مضاد له، فالواقع واحد لا يتعدد، نعم درجة إدراك الواقع ومرتبته تختلف وتتعدد، نتيجة اختلاف القابليات والإدراكات ومستوياتها، لكنه يبقى واقعًا واحدًا وفهمًا واحدًا له بمراتب مشككة. وهذا لا يعني نسبية الحقيقة والواقع، بل نعني تشكك فهم الواقع والحقيقة. فمثلًا حينما نقول إن الشمس اليوم مشرقة، فإدراك ومعرفة شروق الشمس هو إدراك وفهم حقيقي واقعي، فلا يمكن أن يكون النهار ويقول شخص إن الشمس مشرقة اليوم ويأتي شخص آخر ويقول في ذات الوقت وذات النهار إن الشمس غير مشرقة، نعم درجة إشراق الشمس وتشخيص هذه الدرجة قد تختلف من شخص لآخر، وهذا الاختلاف خاضع لاعتبارات عديدة ليس محلها هنا.
فشروق الشمس في النهار وفق الظروف الاعتيادية هو حقيقة ثابتة مطابقة للواقع، لكن درجة إشراق الشمس في هذا النهار هي التي يمكن أن تكون لها قراءات متعددة، تختلف في تشخيص نسبة شروقها ودرجته، وهي هنا ذات مراتب مشككة.


وقد يقع كثيرًا تعدد الآراء حو لحقيقة واحدة نتيجة للتالي:
١.النزاع اللفظي: بمعنى أن يكون هناك عدم إدراك بمقصود الرأي المطروح، فقط يكون اللفظ المقصود له نفس المعنى لكنه كلفظ متعدد، وهو ما يسمى تعدد الألفاظ لمعنى واحد، وعدم إدراك الباحثين لهذا اللفظ أدى لهذا الاختلاف، وهنا يبحث إمكانية جمع الآراء المتعددة من عدمه. فمثلًا قد يقول شخص إن في الغابة ضرغامًا، ويأتي آخر من الغابة ليقول رأيت أسدًا في الغابة، ويشتد النزاع بين الطرفين ويكون كلاهما على حق، وحينما يتم تبيان الأمر، نجد أن الأول عنى بالضرغام الأسد، بينما الثاني قال بوجود أسد، ولو تم استيضاح المعنى من البداية لعلم كليهما أن ما شاهداه حقيقة واحدة هي لحيوان واحد قد يطلق عليه في اللغة لفظ الأسد وقد يطلق عليه لفظ الضرغام، وهنا أمكن الجمع بين الآراء المختلفة كون النزاع كان حول حقيقة واحدة ومعنى واحد لكن ألفاظه متعددة. 
٢.النزاع المعنوي: هنا يكون النزاع حول المعنى وليس اللفظ، أي أن كل رأي مطروح يختلف في معناه عن الرأي الآخر، وهنا لا يمكن الجمع بين الآراء حتى لو تشابهت ظاهريًّا الألفاظ، فقد يكون لفظًا واحدًا لمعان متعددة، كأن يقول الأول رأيت في الغابة ضرغامًا شجاعًا، ويأت الثاني يقول رأيت ضرغامًا متوحشًا، ويقع النزاع حول معنى ومقصد كل منهما حول حقيقة ومعنى ما شاهداه في الغابة، وحينما يتم استضياح المعنى من الأول يقول رأيت الرجل الشجاع المعروف في القرية هناك في الغابة، بينما الثاني يقول عنيت بالضرغام المتوحش هنا الأسد، ويتضح هنا عدم إمكانية الجمع ين الرأيين كون الأول عنى الرجل الشجاع والثاني عنى الأسد، ووفق كل معنى سيترتب عليه سلوك ورد فعل مختلف، لأن رد الفعل على وجود الرجل الشجاع هو اطمئنان أهل القرية، ورد الفعل على وجود الأسد المفترس في القرية هو استنفارهم وخوفهم.
ولكن قد يختلف المعنى، كما هو حال من ينكر وجود حقيقة خارج عالم المادة، ومن يثبت وجود حقائق غيبية. فلا يمكن هنا الجمع بين الرأيين، لاستحالة اجتماع النقيضين، فأحدهما مطابق للواقع بوجود الله وهو خارج الوجود المادي، والآخر مخالف للواقع وهو نفي وجود حقيقة خارج عالم المادة المحسوس.

 

قيمة المعرفة:
المعرفة تقع بين أمرين إما ما هو كائن أو ما ينبغي أن يكون، لذلك تكمن قيمتها في التساؤل المحوري معرفيًّا حول ماهية هذه المعرفة وقيمتها، من حيث كاشفيتها عن الواقع، أو كونها مجموعة من التصورات والأوهام؟
فكاشفيتها عن الواقع تكسبها قيمة ذات بعد إيجابي تصديقي، يستطيع الباحث عن الحقيقة من خلال هذه الكاشفية، البناء على هذه المعارف الكاشفة بناء فكريًّا منهجيًّا صحيحًا، وهذا البناء المنهجي لمنظومة الأفكار تكمن أهميته كما أسلفنا في بعدين:
1.  البعد الفردي في بناه العقلية والسلوكية؛
2.  البعد الاجتماعي، والذي يتعلق بالفرد ومنظومة علاقاته المحيطة التي تربطه بالحق الواجب ومنظومة القيم والأخلاق والمعايير، سواء على مستواه الأسري أو الاجتماعي.
أما لو كانت هذه المعارف مجموعة تصورات وأوهام، فإنها ذات قيمة سلبية لا يمكن اعتبارها ولا الأخذ بها، بل هي كم مهمل عن الاعتبار، ولا يمكن بناء أي منظومة فكرية منهجية عليها، وفي حال عدم فهم كونها أوهامًا وتصورات نتيجة تقصير أو قصور لدي الفرد، فإن ذلك كفيل بأن يحرف مساره باتجاهات مغايرة للواقع، وهنا يقع الفساد.
"فالبناء الحقيقي ـ كما يقول الشيخ أيمن المصري ـ المحكم للصرح العلمي لا يتم إلا من خلال تأسيس الكيان المعرفي لعقولنا، ولا تقتصر دائرة هذا الأمر على الطالبين والدارسين للحكمة أو الفلسفة، بل الأمر يشمل سائر العلوم الأخرى، فالترتيب السلمي للبناء يقتضي ذلك، والتعاقب المرحلي لا يقوم بدون هذا الشيء، والإحكام والدقة قائمتان على الصلابة الارتكازية للمباني المعرفية، وفي حالة عدم الوصول إلى الإثبات المبنائي للنظرية المعرفية فستكون النتائج حينئذ وخيمة للغاية". 
فقيمة المعرفة تكمن في البحث عن اعتبارها أو عدم اعتبارها سواء نظريًّا كان أو عمليًّا.
فنظريًّا نبحث عن مدى كاشفيتها عن الواقع من عدمه، وكونها ليست خيالات وأوهامًا، فيصح الاعتقاد بها والتعويل عليها، وعمليًّا بمعنى كشفها عن الحسن والقبيح لترتيب الأثر عليه من حيث لزوم الترك والفعل، بحيث يمكننا بناء على ذلك تشييد المنظومة الأخلاقية والحقوقية والاجتماعية والسياسية بناء عليها في المجتمع البشري.
وهنا يتضح سبب الاختلاف الجوهري بين النظريات الغربية والإسلامية في موضوع القيم والأخلاق والحقوق، والتي غالبًا ما تختلف البناءات وأدوات المعرفة، وتختلف على ضوئها النتائج والمنظومات والسلوكيات في تشخيص الوهم من الواقع والقبيح من الحسن. وهذا لا يعني عدم وجود مشتركات، بل هناك مشتركات خاصة فيما يتعلق بالمنطق القائم على العقل البرهاني والذي يملكه البشر جميعًا، وبالتالي قدرته على كشف الواقع أيضًا.

ــــــ
5 أصول المعرفة والمنهج العقلي/ ص ١٩

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد