علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

المعرفة: قراءة وتأملات (4)

 

إيمان شمس الدين
العناوين الكبرى والقلق المعرفي:
في العناوين الكبرى التي لا يختلف عليها عاقل، تكمن تحتها تفاصيل لا يمكن أيضًا لعاقل أن يطلق أحكامه عليها اطلاقيًّا وتعميميًّا، بل يحتاج دراسة كل حالة تفصيلية تحت العنوان الكبير حتى يشخص الحالة وفق معطياتها الخاصة.
بحيث تشخيص أدوات المعرفة ومصادرها في البحث هي الخطوة الأولى مرحليًّا، ويضاف إلى هذه الخطوة منهجيًّا دراسة الحيثيات والظروف والمناخات المعرفية المحيطة بموضوع البحث، لفهم واقعه وامتلاك المكنة والقدرة على التشخيص السليم، في وصف الظاهرة أو تقييم العنوان، أو تشخيص دقة الدراسة وقيمتها المعرفية، كون سلامة المصادر والأدوات  المعرفية منفردة لا تكفي، بل يضاف إليها سلامة التشخيص وفهم الملابسات وظروف الزمان والمكان.
فالنسوية على سبيل المثال عنوان كبير، لكن تكمن تحته تفاصيل كثيرة، فنجد من تصنف نفسها كنسوية متشددة  مثلًا، عندما نذهب للظروف التي تعانيها في محيطها، من قمع واضطهاد وعنصرية وذكورية سواء على مستوى قوانين الدولة، أو على مستوى النظام الأسري السائد، أو على مستوى عادات وتقاليد المجتمع ومعتقداته حول المرأة وشخصيتها، فعندها يمكننا أن ندرك وصفها لنفسها بالتشدد، لأن محيطها الضاغط أوجد لها ظروفا شديدة التعنصر، فولد عندها ردود أفعال عكسية شدتها أقوى من شدة الفعل الممارس عليها، هذا الجو المتطرف عنصريًّا يفقد الإنسان تحت الضغط العنصري قدرته على التشخيص السليم لمصادر المعرفة، وبالتالي للمنهج الذي يبنى عليه معارفه، ولطبيعة النتائج التي تتوالد عنده معرفيًّا شدة وضعفًا. لكن لو خرجت هذه من ظروفها الضاغطة عنصريًّا إلى بيئة معتدلة، لانكشف لها واقع آخر أعاد لها اتزانها فكريًّا وسلوكيًّا وباتت انفعالاتها أكثر اتزانًا وردود أفعالها المعرفية أكثر تعقلًا.


إذا أدوات المعرفة ومصادرها هي الخطوة الأولى في كشف الواقع، ولكن تحتاج إلى خطوات تابعة ومهمة على الباحث التحلي بها وأهمها:
١.الخروج من البيئة وظروفها وملابساتها خروجًا عاطفيًّا وانفعاليًّا، ومحاولة إدراك الواقع بتعقل واعتدال واتزان.
٢.عدم التبني السريع للمنتجات المعرفية التي تقتحم مجالنا الإدراكي بشكل سريع نتيجة هبوب ريح متطرفة عاصفة في المجتمع، واستغلال هذه الثغرة وهبوب ريح مضادة تقدم نفسها كعلاج لهذه الأزمة المعرفية، فالمعارف تتطلب بيئة متزنة غير انفعالية ولا عاصفة، تحاول أن تتطلع على الآراء بإنصاف كي تستطيع فهم طبيعة المعطيات المعرفية لكل ريح معرفية عاصفة ومصدريتها المعرفية وأدواتها، ومن ثم تفنيدها معرفيًّا وبناء معرفة حول موضوع البحث قائمة على التعقل والاتزان النفسي، والإنصاف العلمي، والاعتدال.
٣. معالجة التشدد المعرفي، سواء كانت قيمة المعرفة الناتجة إيجابية أو سلبية لا يتم بالتشدد، بل يكون بفهم واقع هذه المعارف وإدراك قيمتها ومن ثم معالجتها بالحكمة وليس بالصدام المعرفي، لأن من لوازم الصدامات المعرفية الجدلية الانحراف عن كشف الواقع، و الدخول في المناكفات الشخصية على حساب الحقيقة. 
وهذا يقاس أيضًا على غيرها من العناوين الكبرى، التي تتفق عليها البشرية، كالعدالة والحرية، و غيرها من العناوين الكبرى القلقة التي تؤرق الفكر الإنساني عبر التاريخ.
فحقوق الإنسان، والمطالبات بالعدالة والحرية، وحقوق المرأة، وحرية الاختيار والتعبير والاعتقاد، والتعددية الدينية والفكرية، وغيرها من الهموم المعرفية القلقة والعناوين الكبرى، لا يمكن أن تتم معالجتها بطريقة الرياح المعرفية العاصفة، تحت ضربات العولمة الفكرية، ولا يمكن بناءها وكشف واقعيتها ومصدريتها المعرفية، إلا بعد تأسيس رؤية كونية في ظروف معرفية متزنة لا على شكل ردود أفعال معرفية يتمترس فيها كل رأي خلف ترسانته المعرفية المغلقة، فتبنيها كما هي تحت ضغط العولمة الشعبوية التي تستخدم وسائل الضغط الإعلامي والسياسي لأجل فرض رؤيتها المعرفية في هذه العناوين، هو انفعال شعبوي قطيعي غير قائم على أسس سليمة في تشخيص قيمة هذه المعارف الواردة إلينا تحت هذه العناوين الكبرى المهمة.


كما أن رفضها مطلقًا كنوع من التمترس المضاد معرفيًّا، هو انفعال شعبوي مضاد غير قائم على أسس سليمة في تشخيص قيمتها، وحتى في فهم ملابساتها ومحاولة بناء منظومة معرفية تحت هذه الهذه العناوين الكبرى تتجاوز الانفعال ورد الفعل، إلى الفعل المعرفي المعتدل المتزن في بناء مشروع متزن معرفيًّا لهذه العناوين الكبرى. فهي من مصاديق النزاعات المعنوية التي تتفق فيها الألفاظ وتختلف فيها المعاني بطريقة لا يمكن فيها التوليف بين الآراء، لأن الأصل الذي تنطلق منه تلك الدعوات صاحبة هذه العناوين الكبرى، الأصل المصدري والأداتي للمعرفة يختلف عن منطلقاتنا كمسليمن المصدرية والأداتية المعرفية، مما يؤدي لاختلاف حتمي في المعطيات والنتائج وفي المنظمومات المعيارية والمرجعية في تشخيص مفاهيم كالحريات والحقوق والعدالة وغيرها. نعم قد نتفق في عناوين فرعية وهذا وارد كون العقل قادر على تشخيص القبيح والحسن على مستوى الماينبغيات، ما ينبغي أن يكون وهو المستوى العملي.
فغالبًا هي عناوين موجودة عبر التاريخ، لكن قد يكون بروز عنوان في بيئة وحقبة زمنية، وضمور آخر في ذات البيية والحقبة، هو بسبب الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية المحيطة، هذه الأحداث صانعة للأفكار القلقة والهموم المعرفية، وعادة تخلق حالة من اللاتوازن المعرفي، بين إفراط وتفريط، وقليل من الأشخاص الذين يمتلكون مكنة الخروج من الحدث وضغوطه المعرفية، لمحاولة رؤية الواقع ومعالجة الإشكاليات المعرفية وفق الواقع ومعطياته، لا وفق الانفعالات وردود الأفعال النفسية على تلك الجدليات المعرفية القلقة والمتمظهرة نتيجة الأحداث.


إذًا نحن هنا بصدد الحديث عن الجودة والضوابط والمصادر والمعايير، فهناك ضوابط لوصف ما لدينا بأنها معرفة، وأهم هذه الضوابط هي انطباق معايير المعرفة على ما لدينا وأهم معيار هو معيارية المصدرية بمعنى مصدر هذه المعرفة، كون المصدر يحدد مدى صدقها وقيمتها وحقيقتها وأثرها على الواقع الخارجي بل قبله على واقعنا الداخلي أيضًا، هذا فضلًا عن دراسة الظروف المحيطة بهذه المعارف وأسباب تولدها، وكيفية تولدها في الإدراك العام الشعبوي أو النخبوي، لفهم ملابساتها وتفكيك بنيتها وإعادة التوازن لعناوينها لإعادة توليدها من جديد بطريقة كاشفة عن الواقع والحقيقة، الذي نعيش ملابساته في زماننا ومكاننا، وليس في زمان ومكان تحكمهما ظروف معرفية مغايرة ومؤثرة على النتائج وما يترتب عليها. 
فليست الفوضى التي نعيشها اليوم باسم المعرفة إلا نتاج الخلط بين التصورات والأوهام وبين المعارف الكاشفة عن الواقع، هذا الخلط هو بسبب الخلط في أدوات المعرفة والمناهج، وفي عدم فهم ملابسات المنتجات المعرفية وظروفها المحيطة التي نتجت فيها، هذا فضلًا عن الطريقة الشعبوية القطيعية التي باتت تهيمن على طريقة تبني الآراء دون فهم لمدى كشفها عن الواقع من عدمه، ومدى مصداقيتها من عدمه، بل عدم فهم غايات انتشارها وتبنيها بطريقة غير علمية ولا منهجية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد