أسس التعدّديّة
التعدّديّة تضرب بجذورها في نمط معرفة الإنسان وتوجّهاته الأيديولوجيّة، وعلى ضوء هذه المعرفة تسري إلى الفكر الدينيّ، وهذا يعني أنّ الأيديولوجيا هي المصدر الأساسيّ للتعدّديّة؛ لذا إن اقتضت معرفة أحد الناس وتوجّهاته الأيديولوجيّة أن يعتقد بكون الحقيقة والفكر أمرين نسبيّين، فهو يتبنّى هذه الرؤية على صعيد المعتقدات الدينيّة أيضًا بحيث ينظر إلى الدين بأسلوب نسبيّ وتعدّديّ.
وفيما يلي نتطرّق إلى بيان مناشئ الرؤية التعدّديّة:
1) نسبيّة الفهم وارتباط هذه النسبيّة بالتعدّديّة
المقصود من النسبيّة في الفهم هو عدم وجود شيء يمكن للإنسان فهم حقيقته سواء أكان نسبيًّا أم نفسيًّا، محدودًا أم مطلقًا؛ إذ لا قدرة له على معرفة واقعه.
يعتقد أتباع بعض الأيديولوجيات بأنّ الحقيقة عبارة عن أمرٍ غير محدودٍ - مطلق - بينما عقل الإنسان وفكره محدود، وعلى هذا الأساس استنتجوا عدم قدرة العقل على إدراكها لكون المحدود عاجزًا عن فهم كُنه اللامحدود، وهذا يعني أنّ كلّ إنسانٍ بإمكانه إدراكها حسب قابليّته العقليّة. بعد هذا الاستنتاج ادّعوا أنّ فهم كلّ إنسانٍ للحقيقة صائبٌ، ومن ثمّ يجب اعتبار كافّة الآراء والنظريّات صحيحةً، وكلّ المدارس الفكريّة على حقّ.
2) تأثّر الحقيقة بفهم الإنسان
يعتقد بعض الباحثين أنّ المنشأ الآخر للنسبيّة هو الاختلاف بين طبيعة فهم البشر للحقائق الخارجيّة، وقصدهم من ذلك أنّ هذه الحقائق تختلف عمّا يتصوّره الإنسان لكونها ذات طابع معيّن وميزات خاصّة بها، لذا حينما تلج في منظومته الإدراكيّة وتتغلغل في خلايا دماغه ثمّ تجري في ممراته التي تتبلور على هيئة فكرٍ في نهاية المطاف، سوف تتّسم بطابع آخر وميزات مختلفة عمّا كانت عليه في عالم الخارج؛ ونظرًا للاختلاف الكائن بين البشر على صعيد منظوماتهم الإدراكيّة وخلاياهم الدماغيّة فكلّ واحدٍ منهم يدرك الحقيقة وفقًا لقابليّاته بحيث تتّسم بصبغة ما لديه من أفكار.
بناءً على ما ذُكر لا يمكن لأيّ إنسانٍ إدراك الحقيقة المطلقة بواقعها، بل غاية ما في الأمر أنّه يدركها تناسبًا مع قابليّاته الفكريّة وليس كما يدركها غيره، وليس كما هي في عالم الواقع، فالحقيقة بحدّ ذاتها عبارة عن أمرٍ واقعٍ مطلقٍ لا يمتاز بأيّ خصوصيّة، لذا يدركها كلّ إنسانٍ على أساس خصائص إدراكيّة مجازيّة.
هذه الرؤية التعدّديّة على الصعيد الأيديولوجيّ تغلغلت في باطن المعارف الدينيّة، حيث طبّق أصحابها رؤيتهم إزاء عالم الطبيعة على الشريعة الدينيّة، وثمرة ما توصّلوا إليه في هذا المضمار ادّعاء أنّ كلّ إنسانٍ يفهم الدين حسب قابليّاته، وبالتالي فهم كافّة الناس حقّ.
نقد نسبيّة الفهم
المبدأ الأوّل للتعدّديّة هو اعتبار الحقيقة أمرًا مطلقًا، لكن ما هي هذه الحقيقة المطلقة؟ لو كان المقصود من الإطلاق لامحدوديّة حقائق إمكانيّة معيّنة مثل الماء والتراب والأشياء التي يسعى الإنسان إلى معرفتها بداعي ارتباطها به، فهذا الكلام باطلٌ، إذ ليس من الصواب بمكانٍ اعتبار الشجرة حقيقةً مطلقةً بحيث لا يدرك كُنهها حتّى المهندس الزراعيّ، كذلك لا يمكن ادّعاء أنّ الميكروبات كائنات مطلقة لا يدرك حقيقتها حتّى الطبيب المتخصّص في الطبّ الميكروبيّ؛ والسبب في ذلك طبعًا يعود إلى أنّ كافّة الحقائق الخارجيّة محدودة وليست مطلقةً، لذا ليس ثمّة محذور في معرفة كُنهها، والإنسان بدوره قادر على ذلك.
أضف إلى ذلك يوجد تعارض في بادئ وخاتمة القول بإطلاق الحقائق الخارجيّة، إذ لو كان الشيء مطلقًا فليس من الممكن أن يوجد شيءٌ في مقابله، أي لا يمكن القول على سبيل المثال «الماء حقيقة مطلقة، والذهب أيضًا حقيقة مطلقة»، إذ لو كان الماء حقيقة مطلقة حقًّا، فلا يبقى أيّ مجال لوجود حقيقة مطلقة غيره؛ وعلى هذا الأساس فالجمع في شيء واحد بين التعدّد والإطلاق هو في الواقع جمع بين نقيضين، وهو باطل طبعًا.
إذن، كلّ شيء موجود في عالم الخارج يعدّ محدودًا في الواقع - غير مطلق - ومن المؤكّد أنّ كلّ محدود يمكن للإنسان إدراك كُنهه، أي أنّ معرفة حقيقته ليست بالأمر المستحيل.
لكن إذا كان المقصود هو إطلاق كافّة الحقائق الموجودة في العالم فهذا الكلام صائبٌ، لكن ليس ثمّة من يدّعي إمكانيّة فهم كافّة الحقائق الماضية والحاضرة والمستقبليّة.
كذلك لو كان المقصود هو إطلاق ذات البارئ تبارك شأنه، فهذا الكلام وإن كان حقًّا، لكن لا أحد يمكنه ادّعاء قدرته على الإحاطة بمكنون هذه الذات المقدّسة.
نقد القول بتأثّر الحقيقة بفهم الإنسان
المبدأ الثاني للتعدّديّة كما ذكرنا آنفًا هو أنّ كلّ إنسان لديه منظومته الإدراكيّة الخاصّة به ويمتلك خلايا دماغيّة مستقلّة؛ لذا تختلف عناصر الاستقبال الدماغيّة والفكرية لديه عمّا لدى الآخرين، وإثر ذلك تختلف المعارف المكنونة في ذهنه عن معارف غيره.
هذا الاستنتاج غير صحيح؛ لأنّ إدراك الإنسان لا يتوقّف على الدماغ وخلاياه فحسب، بل الخلايا الدماغيّة مجرّد وسيلة لعمليّة الفكر، فالروح المجرّدة هي التي تتولّى مهمّة القطع واليقين العلميّ، وهي صاحبة القرار العمليّ الذي يتّخذه الإنسان.
الإدراك عبارة عن أمرٍ مجرّدٍ وهو ليس من وظائف القلب والدماغ المادّيين، بل تقتصر وظيفتهما على كونهما وسيلتين تؤثّران وتتأثّران، وحينما يواجهان مسائل علميّة تتهيّأ الأرضيّة المناسبة للروح المجرّدة كي تقوم بعمليّة الإدراك، وعلى هذا الأساس عندما تبلغ الروح حدود الفكر فهي تجد نفسها غير مقيّدة بمكانٍ معينٍ، بل تشعر بعدم تعلّقها بأيّ مكانٍ. المقصود من هذا الكلام هو أنّ الإنسان من الناحية البدنيّة يمكنه أن يقول الآن «أنا موجود الآن في هذه المدينة وهذا الزمان» لكنّ روحه ليست كذلك، حيث هي تطوي مسيرتها في السماء والبرّ والبحر، فالتقنيّ المتخصّص في دراسات أعماق البحار على سبيل المثال يجلس في محلّ عمله الخاصّ بالدراسات والبحوث العلميّة لأجل أن يرسم تصميمًا هندسيًّا لصناعة غوّاصة تجوب أعماق البحار، لذا عادةً ما يسخّر وقته لدراسة خصائص هذه الأعماق في كلّ مكانٍ من الكرة الأرضيّة، حيث يؤدّي هذه الوظيفة دون أن يغوص بنفسه في أعماق كافّة البحار والمحيطات لاستطلاع أوضاعها، بل يجلس أمام طاولة وأمامه كتاب أو مجموعة من الكتب إلا أنّ روحه تجوب أعماق البحار والمحيطات؛ وكذا هو حال عالم الفلك الذي يستكشف المجرّات بكلّ براعةٍ.
إذن، روح الإنسان ليست في الأرض ولا في السماء لأنّ الكائن المجرّد غير مقيّد بحدود الزمان والمكان، لذا توجد كائنات محدودة بنطاق الزمان أو المكان، وتوجد كائنات غير محدودة بذلك.
بما أنّ الأرض ذات ارتباطٍ بمسألة الزمان، لذا يمكن للسائل أن يسأل «كم سنةً عمرها؟» لكن لا يمكن السؤال مطلقًا عن عمر المسائل الرياضيّة، إذ ليس من المنطقيّ أن يسأل سائل «كم سنةً عمر المعادلة الرياضيّة التالية: 2+2 = 4؟» أو يسأل «كم سنةً عمر القاعدة القائلة بأنّ مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين؟»، كذلك لا صواب للسؤال عن عمر القاعدة الفلسفيّة القائلة بوجود علّة لكلّ معلول.
كذلك يمكن للسائل أن يسأل عن وزن الأشياء، كما لو قال «كم غرامًا وزن هذا الكتاب؟»، إذ توجد إجابة لهذا السؤال وما شاكله، لكن ليس من الصواب مطلقًا السؤال عن وزن روح الإنسان أو فهمه أو إيمانه أو عدله لكون هذه الحقائق مجرّدة ولا تتّسم بطابعٍ مادّي أو وزنٍ كي يتمّ تقويم وزنها بالغرام أو غيره من المقاييس المادّيّة؛ كما أنّ كلّ مجرّد لا مكان ولا زمان له على الإطلاق؛ ناهيك عن أنّ الروح التي تدرك هذه المعاني والمعارف المجرّدة من الزمان والمكان، لا يمكن أن تخضع لقيود الزمان والمكان.
نستنتج ممّا ذكر بخصوص المعرفة البشريّة أنّ وسائل الإدراك الموجودة لدى بني آدم مختلفة وإثر ذلك تتنوّع حالات الفعل والانفعال الدماغيّ من شخصٍ لآخر، إلا أنّ هذا الاختلاف الكائن في الجانب المادّيّ لا يعدّ دليلًا يثبت لزوم وجود اختلاف على صعيد الإدراك لكون الفكر لا يقتصر على هذه الوسائل المادّيّة فقط، ويمكن تشبيه هذا الأمر بمن يستخدم عدّة أقلامٍ لكتابة موضوعٍ واحدٍ.
لو افترضنا أنّ كافّة المعلّمين والأساتذة تمكّنوا من نقل ثمرة أفكارهم إلى تلامذتهم بنجاحٍ، بحيث قبل كثير منهم في الامتحانات النهائيّة، فهذا الأمر يدلّ على أنّ هؤلاء الناجحين قد فهموا ذات الشيء الذي أدركه أساتذتهم؛ ويمكن تشبيه المسألة بقراءة كتابٍ، أي أنّ قارئه يفهم ذات ما فهمه مؤلّفه ولم يفهم منه معنى آخر لا ارتباط له بما تمّ تدوينه، فلو كان الفهم غير المقصود لانقطع الارتباط بين الفهم والتفهيم.
إذا كان إدراك الحقائق لدى كلّ إنسان حسب خصائص فهم دماغه وخلاياه، كيف يمكنه حينئذٍ نقلها بذاتها إلى الآخرين؟! من المؤكّد أنّ الخلايا الدماغيّة مجرّد وسيلة للفهم والتفكير وليست مدركًا حقيقيًّا، لأنّ الإدراك من وظائف الروح التي ليس لها لونٌ ولا رائحةٌ أو أيّ ميزة مادّيّة أخرى، وعلى هذا الأساس فما تدركه لا يتّصف أيضًا بأيّ ميزة مادّيّة، ولا يترتّب عليه أيّ أثر من الآثار التي تترتّب على الأمور المادّيّة.
التعدّديّة وليدة النزعة الشكّيّة والفكر السوفسطائيّ
المبادئ الأساسيّة التي ترتكز عليها الرؤية التعدّديّة وليدة للنزعات الشكّيّة والأفكار السوفسطائيّة، فمن يقول: «الحقيقة هي كلّ أمرٍ مطلقٍ، بينما الإنسان كائنٌ محدودٌ، لذا لا يمكنه إدراكها؛ لأنّ المحدود لا قدرة له على فهم المطلق»، هو في الواقع مبتلى بمعضلة السفسطة، لأنّ الوجود المطلق مختصّ بالذات الإلهيّة المقدّسة فحسب، وكافّة الكائنات في عالم الوجود محدودة، ولا أحد يدّعي أنّ الإنسان قادر على إدراكها كافّةً.
الإنسان على ارتباط بما يحيط به، فالخبير المختصّ بصيد الأسماك بطبيعة الحال يعرف مختلف أنواع الأسماك وأسماءها، كما أنّ المهندس المختصّ بتصميم السدود لديه علم بموادّ البناء اللازمة لإنشائها مثل نوع الإسمنت وسائر المكوّنات التي يجب استخدامها في تشييدها وطبيعة الأرض التي تُشيّد عليها. هذا النوع من العلم ممكن للبشر لكون موضوعه عبارة عن أمرٍ محدودٍ، وروح الإنسان من منطلق تجرّدها قادرة على إدراك هذا الموضوع المحدود بكلّ جزئيّاته.
الجدير بالذكر هنا أنّه قد يحدث اختلاف على صعيد فهم الأمور المحدودة، وإذا كان هذا الاختلاف على نحو التناقض، فهذا يدلّ على أنّ أحد النقيضين حقٌّ والآخر باطلٌ، وإن لم يكن على نحو التناقض من الممكن أن يكون كِلا الطرفين حقًّا أو باطلًا أو أن يكون أحدهما حقًّا والآخر باطلًا، فعلى سبيل المثال لو أبدى عشرة أشخاصٍ آراهم إزاء مسألةٍ ما، فمن الممكن أن تكون كلّ هذه الآراء صائبةً، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ كلّ واحد منهم فهم المسألة من إحدى نواحيها؛ كذلك من الممكن أن تكون كلّ آرائهم باطلةً لكونها تتعارض مع الحقّ، إلا أنّ الرأيين المتناقضين اللذين ينفي أحدهما المسألة والآخر يثبتها، لا يوجد حدّ وسط بينهما؛ لذا لا بدّ أن يكون أحدهما صائبًا - على حقّ - والآخر باطلًا وفقًا للقاعدة القائلة باستحالة اجتماع النقيضين واستحالة رفعهما.
معرفة الإنسان الكامل بعالم الوجود
قدرة الإنسان على امتلاك معرفة عن طريق قابليّاته الإدراكيّة وبواسطة ما أدركه أقرانه البشر تدلّ بوضوح على أنّ معظم البشر لديهم قابليّات معرفيّة محدودة، ولا علم لهم بالكثير من الحقائق؛ فالقليل منهم لهم قدرة على الإحاطة التامّة بالكثير من الأشياء بفضل قربهم من الله عزّ وجلّ وتلقّيهم الفيض القدسيّ منه أسرع من سائر البشر.
وبعبارة أخرى: بعض الكائنات خلقت قبل غيرها، أي أنّها الصادر أو الظاهر الأوّل في عالم الخلقة، فقد ذَكَرَت نصوصنا الدينيّة أنّ أوّل نور خلقه الله تبارك وتعالى هو نور النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) ثمّ خلق سائر الكائنات.
الصادر الأوّل في عالم الخلقة لديه إحاطة تامّة بسائر المخلوقات؛ لأنّ وجود كلّ ما خلق بعده يعدّ أدنى درجةً وأضعف من وجوده.
الكائن الذي على رأس هرم خلقة الكائنات، هو الإنسان الكامل وخليفة الله ومظهر اسمه الأعظم، وله القدرة على معرفة مظاهر الأسماء الحسنى؛ لذا لا يمكن ادّعاء عدم وجود أناسٍ لديهم إحاطة تامّة بكافّة علوم عالم الإمكان، بل من الممكن أن يوجد إنسان كامل لديه هذه الإحاطة، لكنّه رغم ذلك لا يُحيط بكُنه الله تعالى وأسمائه الذاتيّة، بل يدرك أسماءه الحسنى على قدر قابليّاته الوجوديّة، وفي الحين ذاته يمتلك إحاطة تامّة وعلمًا كاملًا بالكائنات التي هي أدنى درجة وجوديّةً منه، ومن ثمّ له القدرة على معرفة أحوالها.
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان