علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيد مرتضى مطهري
عن الكاتب :
مرتضى مطهّري (1919 - 1979) عالم دين وفيلسوف إسلامي ومفكر وكاتب شيعي إيراني، هوأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي و روح الله الخميني، في 1 مايو عام 1979، بعد أقل من ثلاثة أشهر على انتصار الثورة الإسلامية، اغتيل مرتضى مطهري في طهران إثر إصابته بطلق ناري.

النظريّات الأخلاقيّة (1)

نظريّة العاطفة

«العاطفيّة» من أقدم النظريّات الموجِّهة للسلوك الأخلاقيّ؛ فثمّة فريق يؤمن بأنّ مناط «أخلاقيّة» المواقف والأفعال هو العواطف الإنسانيّة. ويقسّمون الأفعال البشريّة إلى قسمَين:

أوّلاً، الأفعال العاديّة: وهي تنشأ من أنانيّة الإنسان والميل الطبيعيّ الموجود فيه، والهدف منها هو جلب المنفعة واللذّة، ومثل هذا العمل -منشأً وهدفاً- لا يمتّ للأخلاق بصلة، وذلك كأغلب الأفعال الصادرة عن الإنسان. فالعامل إنَّما يكدح ويجهد نفسه طلباً للأجرة والعوض المادّيّ؛ كي يؤمّن معيشته، وكذلك الموظّف الإداريّ العامل في شركة ما، أو التاجر الباحث عن التجارة والربح، إلى غير ذلك من المساعي والخطوات المرتبطة بذات الشخص وحياته الخاصّة، والنابعة من ميوله ورغباته الشخصيّة، والّتي هدفها جلب اللذّة ودفع الضرر، كمن يراجع الطبيب لرفع ألمٍ أَلَمَّ به، أو لدفع خطرٍ محدق به، فهذه كلّها أعمال طبيعيّة ولا تمتّ للأخلاقيّة بصلة.

ثانياً، الأفعال الأخلاقيّة: ومنشؤها «العاطفة» الّتي هي فوق الميول الفرديّة وأعلى منها. وأصحاب هذه «العاطفة» لا يحبّون ذواتهم فقط، بل يحملون في قلوبهم هَمَّ مصير الآخرين، ويهتمّون به تماماً كما يهتمّون بهمومهم ومصائرهم. وإذا نال الآخرون نفعاً أو لذّة، ابتهجت نفوسهم أيضاً، كما لو أنّهم هم أنفسهم الّذين نالوا النفع أو اللذة.

ومن الواضح أنّ لهذا درجات ومراتب. فأحياناً، تسمو «العاطفة» -والّتي هي غير الحبّ- عند بعض الناس إلى مرتبة أعلى، وتبلغ أوجها، وهي مرتبة «الإيثار»؛ أولئك هم الّذين تكون سعادتهم وسرورهم بإيصالهم الخير للآخرين، وإدخال الفرحة عليهم أكبر من سرورهم بوصول ذلك إليهم؛ يعني أن يكسوا الآخرين أحبُّ إليهم من أن يكسوا أنفسهم، وأن يُطعموا الآخرين أهنأ وألذّ لهم من أن يأكلوا، وأن يُريحوا الآخرين أطيب لهم من جلب ذلك لأنفسهم.

 

المبدأ والهدف لفعل الإنسان

الحاصل أنّ القائلين بهذه النظريّة يؤكّدون أنّ لكلّ فعلٍ إنسانيّ مبدأً وهدفاً، ومبدأُ كلِّ فعلٍ إنسانيّ هو الإحساس والعاطفة المحرِّكان نحو الفعل. ولولا المبدأ، لاستحال صدور فعل من الإنسان؛ فكلُّ فعلٍ له هدف منظور، والإنسان عبر فعله يروم الوصول إلى هدفه.

والفعل الأخلاقيّ هو ما ينشأ من مبدأ وميلٍ لا ربط له بشخص الفاعل، بل هو مرتبط بالآخرين؛ وهذا «الميل» هو ما يُصطلَح عليه بـ«العاطفة». ومن حيث الغاية، ليس الهدف منه وصول «الخير» للذات، بل وصوله للآخرين. فبحسب هذه النظريّة، فإنّ الفعل الطبيعيّ لا يكون خارجاً عن دائرة «الذات» و«الأنا»، والإنسان المربوط ميله بـ«الأنا» همُّه إيصالُ الخير والنفع لذاته وحدها، تماماً كما هي طبيعة الحيوانات.

أمّا الفعل الأخلاقيّ فهو -مبدأً وهدفاً- خارجٌ من دائرة «الأنا»؛ لأنّ الميل للفعل سببُه الآخرون، كما أنّ الهدف هو تجاوز «الذات» والخروج من دائرة «الأنا». والإنسان الأخلاقيّ، هو الّذي يخترق دائرة «الأنا» ويطؤها بقدمه؛ كي يصل إلى الآخرين. والأخلاق في هذا المسلك، تنشر المحبّة والمودّة، بل الأخلاق في هذا المسلك هي الحبّ والمحبّة، ومعلِّمُ الأخلاقِ القائمةُ أخلاقه على هذه الدعامة، يرى نفسه رسول المحبّة والصفاء.

لا بدَّ من القول: إنّ هذه النظريّة -إجمالاً وإلى حدٍّ ما- نظريّة مشتركة بين الأديان كافّة، وأغلب مدارس العالم الفلسفيّة تتشبّث بمبدأ «المحبّة»، ولا يوجد في دنيا الأديان دِينٌ لم يُوصِ بالمحبّة خيراً. وفي أخبارنا وأحاديثنا ما يدلّ على ذلك، نحو: «فأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا»، وثمّة روايات كثيرة بهذا المضمون. وهذه التوصية وردت في الأديان الكبرى كافّة في عالمنا؛ غاية الأمر أنّ بعض المذاهب أو الأديان ترتكز على «المحبّة» أكثر من غيرها؛ يعني أنّ «المحبّة» تُشكّل محور الأخلاق فيها، في حين أنّه في بعض المذاهب والأديان الأخرى، تُعَدّ «المحبّة» عنصراً من عناصر الأخلاق، حيث هناك عناصر أخرى تشترك معها في تركيبة الأخلاق.

 

الأخلاق الهنديّة

الأخلاق الهنديّة أخلاق عاطفيّة؛ بمعنى أنّ محورها وعمادها هو «العاطفة»، كما هو حال الأخلاقيّة المسيحيّة.

يقول غاندي (Mahatma Ghandi) في كتابه «هذا هو مذهبي»: من قراءتي في «الأبانيشاد»  (Upanishad)، توصّلتُ إلى أصول ثلاثة، وهي:

1. أنّه توجد في هذا العالَم معرفةٌ واحدة، ألَا وهي معرفةُ النفس. ففي الفلسفة والثقافة الهنديّة، تُعَدّ معرفة النفس أساسَ المعرفة ولبَّها، والرياضات الهنديّة تُمارَس لأجل هذا.

2. أنّ كلّ مَن عرف نفسه، عرف ربّه وعرف حقيقة العالم.

هذان الأصلان صحيحان، وقد أكّدهما الإسلام، وظهرَا جليّاً في أحاديثا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ووصيّه (عليه السلام)، يقول عليّ (عليه السلام): «مَعْرِفَةُ النَّفْسِ أَنْفَعُ الْمَعَارِفِ‏».

3. في هذا العالم، ثمّة قدرة واحدة، وهي قدرة التسلّط على «النفس»، والتمكّن من تطويقها. وبتعبير «غاندي»: «كلّ من يسيطر على نفسه وذاته، يسيطر على العالم أيضاً. في هذا العالم يوجد شيء جميل، وهو حبّ الآخرين كحبّ الذات». وهذه الفقرة هي مقصودنا من نقل كلام «غاندي»، حيث نثبت بها اعتماد الأخلاقيّة الهنديّة على حبّ الآخرين، والاندكاك في الأغيار.

وأمّا المبشّرون والمبلّغون المسيحيّون، فإنّهم يقولون أيضاً -ولو ادّعاءً-: نحن رُسُل المحبّة، والمسيح أيضاً كان رسول محبّة، حتّى إنّه كان يقول: «إذا صفعك أحدٌ على خدّك الأيمن، فأدِر له خدّك الأيسر». هذا علماً، أنّ الهنود -بحكم شرقيّتهم- أقلّ نفاقاً وكذباً، بخلاف المسيحيّين، فهم -بحكم غَربيّتهم- يقولون ما لا يفعلون؛ لذا قلنا: ولو ادّعاءً.

 

نقد نظريّة العاطفة

وكيف كان، فهذه النظريّة نصفها -القائل بأنّ الأخلاق تعني المحبّة وفِعل الجميل- صحيح، والنصف الآخر خطأ؛ ويتّضح ذلك عند ملاحظة الإيرادات الآتية:

1. لا يمكن عَدُّ كلِّ محبّةٍ أخلاقاً: وإن كانت تلك المحبّة ممدوحة ومحمودة، وليس كلّ فعل ممدوح أو مذموم، يُعَدّ أخلاقيّاً أو غير أخلاقيّ؛ فالفارس القويّ يُمدَح على قوّته وبسالته، لكن لا يُعَدّ ذلك أمراً أخلاقيّاً بطبيعة الحال؛ لأنَّ «الأخلاقيّة» تتضمَّن عنصر الاختيار والاكتساب لِمَلَكات غير غريزيّة، فإذا كان الشيء الجميل الحَسَن فطريّاً وغريزيّاً في الإنسان، حيث لم يكتسبه اختياراً، فهو وإن كان رائعاً ومحموداً، إلّا أنّه لا يدخل تحت عنوان «الأخلاق».

على سبيل المثال: حبّ الوالدَين للابن شيءٌ مقدَّس وعظيم، لكن لا يُقال بأنَّ هذه الإحساسات الرقيقة والعاطفة الحارّة «أخلاق»؛ بدليل أنّ هذه الأُمّ لا تشعر تُجاه ابن جارتها بما تشعر به تُجاه فلذة كبدها، ولا يعنيها أمره، فهذه الأحاسيس لم تكتسبها اكتساباً، بل قانون الخلقة الحكيم هو الّذي وهبها إيّاها؛ لكي تنتظم الأمور والشؤون الاجتماعيّة للبشر، ولولا ذلك لَمَا أرضعَت أمٌّ ابنَها. وعلى هذا، فأحاسيس الأمومة هي مشاعر حبّ للغير، ناشئة من «العاطفة»، وخارجة عن نطاق «الذات» و«الفرد»، لكن لا يمكن عدُّها «أخلاقيّة»، ولا يمكن إدراج فعل الأمّ هذا ضمن «الأخلاق». كذلك هو شأن أحاسيس الأب و والأقارب والأرحام والمشاعر الوطنيّة والقوميّة. فالمشاعر الّتي لم تحصل للإنسان بالاكتساب، لا يمكن عدُّها «أخلاقيّة».

2. الإيراد الثاني هو أنّ دائرة الأخلاق أوسع من محبّة الآخرين: إذ توجد سلسلة من الأفعال والسلوكات النبيلة والراقية يمارسها الإنسان من غير أن تكون ناشئة من حبّه للآخرين، والمرء لا يملك إلّا أن يُقدّس تلك المعاني، كما يُقدّس ما يرتبط بمحبّة الآخرين، كالإيثار والإحسان، ومن ذلك ما يسمّيه العرب «إباء الضيم». ونحن نعاين رجالاً في التاريخ يضحّون بأرواحهم، ويبذلون مهجهم فيما إذا خُيِّروا بين عزّتهم وكرامتهم، وبين أن يخنعوا أذلاء صاغرين.

هذه التضحية، وهذا الإباء والشموخ قمّةُ الأخلاق، ولا ربط له بمحبّة الآخرين، ولا يمتّ لها بصلة، بل هو إحساس نبيل. وتجد هذا في كلمة الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام)، إذ يقول: «الْقَتْلُ أَوْلَى مِنْ رُكُوبِ الْعَار». وفي كلمة الإمام عليّ (عليه السلام) في المروءة: «قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ؛ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ، تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ؛ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ».

إذاً، فالقول بعدم وجود شيء جميل وحَسَن في هذا العالم، سوى «المحبّة»، قولٌ غير صائب، بل توجد أمور أخرى جميلة، غير محبَّة الآخرين.

3. الإيراد الثالث هو أنّ مفهوم «حبّ الإنسان» بحاجة إلى تفسير: فمثلاً: هل عطف الإنسان على الحيوان -كما في قصّة الرجل الّذي سقى الكلب الظامئ- لا يُعَدّ مِنَ الأخلاق؛ لأنّه ليس «محبّة إنسان»؛ لكون الكلب ليس إنساناً؟ وهل يتعيّن على الإنسان أن يقصر حبَّه على أبناء نوعه فحسب، ولا ينبغي له أن يحبّ الكائنات الأخرى؟ ينبغي أن يحبّ كلّ الأشياء؛ لأنّها مخلوقات الله. يقول «سعدي»:

مبتهجٌ أنا بهذا العالَم؛ لأنَّ هذا العالَم البهيج منه تعالى

وأنا عاشقٌ لكلّ العوالم؛ لأنَّها كلّها منه تعالى

فيا أيُّها الرفيق، عليكَ بنسيم السحر

كي تُحيي هذا القلب الـميِّت؛ لأنَّ هذا النسيم نَفَسُه تعالى

حقّاً، لا يملك الملك ولا الفلك، مثل ما في القلب

الإنسان المفاض  منه تعالى

إنِّي أشرب السمّ الزعاف بلذّة ونشوة؛ لأنَّ الساقي هو الشاهد

وبإرادتي أقتل نفسي؛ لأنَّ المحيي هو تعالى

 

ما هي «الإنسانيّة»؟

«الإنسانيّة» شعارٌ يُردّده الكثيرون، وهو بحاجة إلى فَهم وتفسير دقيق؛ لئلّا يختلط الحابل بالنابل، وتحلّ «اللاإنسانيّة» محلّ «الإنسانيّة». هل «الإنسان» هو هذا الحيوان ذو الرأس والأذنَين، بحيث إنّنا كلّما رأينا حيواناً برأس وأذنَين، نقول: هذا «إنسان» ومن ذرِّيَّة «آدم» أبي البشر؟ وكلّ مَن كان من نسل «آدم» ينبغي أن نحبّه، مهما كانت صفته ومواقفه؟ أم ليس المرادُ هو كلّ «إنسان»، فليس المراد مَن هو «إنسان بالقوّة» ولا مَن هو «ضدّ الإنسان»، بل المراد هو «الإنسان ذو الإنسانيّة»؛ وحبّ «الإنسان» إنّما هو لأجل حبّ «الإنسانيّة» وحبّ «القيم الإنسانيّة».

و«الإنسانيّة» تعني تقديس الـمُثُل والقِيَم الإنسانيّة النبيلة. فالإنسان إنسان وجدير بالحبّ بقدر ما يحمل من تلك «القيم الإنسانيّة»، وساقط عن الاعتبار بقدر تخلّيه عن «الإنسانيّة» وخلعه ثوبها، وإن كان مثل الآخرين في الظاهر، وإلّا فـ«جَنكيز خان»  (Genghis Khan) إنسان، «يزيد بن معاوية» أيضاً إنسان، «الحجّاج بن يوسف» إنسان! إنّ الشيء الّذي افتقده أولئك، هو «القيم الإنسانيّة»، فهُم في الحقيقة أُناسٌ «ضدّ الإنسان».

إذاً، فـ«حبّ الإنسانيّة» يحتاج إلى تفسير. وإذا رأينا إنساناً كاملاً يعطف ويُشفِق على إنسانٍ عارٍ عن القِيَم الإنسانيّة؛ فذلك من حيث إنّه يريد الأخذ بيده والبلوغ به إلى مستوى «الإنسانيّة». وبهذا اللحاظ، يكون الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) رحمةً للعالَمين ورحمةً للبشر كافّة، كافرهم ومؤمنهم. والحاصل أنّ المعيار الّذي تحدّثوا عنه وسمّوه «المحبّة» و«العاطفة»، يُمثّل جزءاً وجانباً من الحقيقة، لا الحقيقة كلّها؛ لأنّ «الأخلاق» أعمّ من «العاطفة» و«المحبّة»، وأشمل.

أضاف بعضُهم قيداً هنا، لتصحيح هذه النظريّة، فقالوا: «الفعل الأخلاقيّ» هو ما تكون الغاية منه هي «الآخرين»، لكن بشرط أن يكون صدورُه بالاكتساب، لا بالغريزة؛ لإخراج عاطفة الأمومة والأبوّة من دائرة الأخلاق، فأضاف عنصر «الاختيار». ولكن يبقى إشكالٌ آخر؛ إذ توجد أخلاقيّات مُسَلَّمٌ بها دون أن يكون الآخرون هم الغاية منها، بل هي صفات وسجايا كماليّة للذات، كالصبر والاستقامة، كما توجد رذائل اكتسابيّة، كالحسد، فإنّه مرض روحيّ، وليس هو لخير «الآخرين» بطبيعة الحال. وعلى أساس هذه النظريّة، يخرج هذان عن الأخلاق. فلا بدَّ من تعميم التعريف والضابطة؛ لتشمل الأخلاقُ الصفاتِ المحمودةَ والمذمومةَ، ثمّ يُضبَط «الفعل الأخلاقيّ» على أنّه ما تكون الغاية منه هي «الآخرين»، إحساناً كانت أم إساءة؛ وحتّى هذا -أيضاً- غير دقيق؛ إذ قد يَظلِم الإنسانُ غيرَه عَرَضاً؛ بمعنى أنّ غايته ليست الإضرار بالآخرين، بل جلب النفع له.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد