عندما نريد أن نفهم أين يقع التماس بين العلوم الطبيعية التي تجعل من التجربة الأساس في فهم القوانين الكونيّة، وبين الفلسفة التي لا صلة لها بالتجارب بل تستمد كل معارفها عن طريق العقل وحده، علينا أن نفهم الطريقة التي يفكر بها الفيلسوف عندما يواجهه سؤال ما.
فعندما يتساءل الفيلسوف مثلاً، هل المادة التي ندركها بالحواس والتي يكون لها كما هو ظاهر، امتداد في الطول والعرض والعمق هي كل ما في المادة من حقيقة ولا يوجد شيء خارج إدراكنا للمادة يؤدي بنا إلى مزيد من الفهم لحقيقتها أو يقودنا إلى نتيجة أكبر من تلك التي تعطينا إيّاها الحواس؟ وعندما يرى – الفيلسوف – ما يجري للمادة من تغيّر، فقد تنحل إلى أجزاء صغيرة وقد تتشكل من مواد أبسط منها، وتتحرك فيتغير موقعها بين لحظة وأخرى ويتساءل هل أن ما يجري من سنن التغيّر الحاكمة على المادة يعكس شكلاً من التغيّر الأعمق يتمّ في صميم المادة؟ أم أن كل التغيّر محصور في ما نشاهده ونلمسه بالحواس؟ وهل الحركة التي تعرض على المادة هي أيضًا تنعكس من حركة أعمق تتمّ في صميم المادة؟ وهل الزمان شيء تحل فيه المادة أم أنه نتاج حركتها؟ وهل هذه الحركة هي ذاتية لها أم أنها عارضة عليها؟
من هنا نتفهم كيف تتولد روابط مشتركة بين قضايا العلوم الطبيعية والفلسفة، وهذه الروابط كما يمكن أن نتصورها من خلال الأسئلة التي يحاول الفيلسوف الإجابة عنها، تتمثل في أن الفلسفة أثناء سعيها لاكتشاف حقيقة الوجود فإنها تجعل من المسائل العلمية التي تهتم بظاهر العالم المادي الجسر الذي يقودها إلى النتيجة الفلسفية.
وبعبارة أخرى فإن مسائل الفلسفة تنتزع من مسائل العلوم، ومعنى الانتزاع هنا أن الذهن يقوم بتكوين مفهوم كلي لمجموعة من الأشياء بعد أن يميز بين صفاتها المشتركة ثم ينشئ من الصفات المشتركة مفهومًا ذهنيًّا كليًّا يصدق على جميع أفراد هذه المجموعة. فالإنسانية مفهوم منتزع من الصفات المشتركة التي تجمع بين أفراد البشر.
الفيلسوف يطرح على نفسه التساؤلات التي لا تتوقف أدوات العالم من الإجابة عنها. وتحتاج هذه التساؤلات إلى الفكر الذي يتحرك في الأفق المفتوح الذي لا تحده قدرة الأجهزة أو دقة الحواس. صحيح قد يكون الحس دليله الأول لأنه يستثير في ذهن التساؤلات لكنه كي يجيب عنها ينطلق من العقل ليصل به وحده إلى معارفه الفلسفية. فمن جملة هذه التساؤلات التي يستثيرها الحس في ذهن الفيلسوف، هل أن هذه الآثار والظواهر التي نستقبلها بالحواس هي جزء من حقيقة الوجود الذي أفرزها أم لا؟ هل أن هذه الظواهر التي نحس بها هل كل الحقيقة الوجودية؟ أم أنها تشكل حجابًا يخفي في داخله حقيقة أكبر؟.
فالفيلسوف ينطلق في مسيرته من الظاهرة ليصل إلى ما تخفيه وراءها من عالم يصنع كل ما نشاهده في الخارج من ظواهر وآثار للمادة، وبتعبير بسيط نستطيع أن نقول إن الفلسفة تحاول أن تنتقل من الأثر إلى المؤثر. وهكذا يتكون لدينا قدر مشترك بين قضايا العلوم والفلسفة. وهنا نتساءل هل أن العلوم والفلسفة تحمل مفاهيم متطابقة لهذه القضايا؟ أم أن لكل منهما مفهومه الخاص؟ أو أن الفلسفة تمثل البعد الأعمق للحقيقة العلمية وبالتالي تكون الفلسفة البعد المكمل للحقائق العلمية؟ فجهود العلماء والفلاسفة تتضافر وتتكامل في تكوين صورة واحدة للعالم منسجمة ومتدرجة الحقيقة من المادي المحسوس إلى الباطن المجرد...
... فهناك اتصال واتساق بين الظاهرة المادية والحقيقة المستترة وراءها والتي تحاول الفلسفة إماطة اللثام عنها بالانتقال من هذا الظاهر الذي هو محلّ اهتمام العلماء إلى الباطن الذي هو محل اهتمام الفلاسفة، فحينما يقرر علماء الطبيعة وكذلك الفلاسفة في مرحلة من مراحل تطورهما الفكري على سبيل المثال بأن هناك امتدادًا رابعًا للأجسام، امتدادًا زمانيًّا، بالإضافة إلى الامتدادات المكانية الثلاثة (الطول والعرض والعمق) فهل هذا البعد الرابع المتفق عليه يشكل وحدة في المفهوم أو هناك اختلاف في الرؤية لهذا الامتداد وإذا كان هناك اختلاف بينهما فهل يضع كلا العلمين على طرفي نقيض؟
... عند محاولة فهم الرؤيتين العلمية والفلسفية لجملة من الموضوعات المشتركة نرى أن هناك اختلافًا ولكن ذلك الاختلاف لا يؤدي إلى رؤيتين متناقضتين بل إن هذا الاختلاف هو شكل من أشكال التكامل في الرؤيتين، وهذا يعني أن الصورة الكاملة للعام صورة متسقة منسجمة بين ما هو ظاهر للحس والتجربة، وبين ما هو مستتر عن الحس والتي لا يمكن الكشف عنها إلا بالدليل العقلي المحض، وكأننا أمام لوحة رائعة موضوعة في إطار يتناسق مع محتواها ويجعلها أكثر جمالاً.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان