علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

التّوحيد في الحاكميّة

انحصار حق الحاكمية في الله سبحانه

إنَّ التوحيد في الحاكمية من شؤون التوحيد في الربوبية فإنَّ الربّ بما أنَّه صاحب المربوب ومالكه، وبعبارة ثانية خالقه وموجده من العدم، له حق التصرف والتسلط على النفوس والأموال وإيجاد الحدود في تصرفاته. وهذا يحتاج إلى ولاية بالنسبة إلى الـمُسَلّط عليه، ولولا ذلك لعُدّ التصرف تصرفاً عدوانياً. وبما أنَّ جميع الناس أمام الله سواسية، والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئاً حتى وجوده وفعله وفكره، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة، بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما يقول سبحانه: ﴿هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً﴾(الكهف:44).

 

والاستدلال بهذه الآية على انحصار الولاية في الله سبحانه مبني على أنْ يكون اسم الإِشارة "هنالك" إشارة إلى الوقت الّذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن في هذه الدنيا، وأنْ تكون الولاية بمعنى تولي الأُمور فهو الّذي يتولى أمر عباده(1).

وعلى هذا فالحاكمية خاصة بالله سبحانه وهي منحصرة فيه وتُعد من مراتب التَّوحيد ولك أنْ تستظهر هذه الحقيقة من الآيات التالية: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾(الأنعام:57).

﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾(الأنعام:62).

﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾(القصص:70).

 

هذا من جانب، ومن جانب آخر إنَّ وجود الحكومة في المجتمع أمر ضروري. والمراد الحكومة الّتي تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية، وتسعى إلى تنظيم الطاقات وتنمية المواهب، وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم، وتجري القوانين والسُّنن الإِلهية والبشرية. ومن المعلوم أنَّ تجسيم الحكومة وتجسيدها في الخارج وممارسة الإِمرة ليس من شأنه سبحانه بل هو شأن من يماثل المحكوم في الجنس والنوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإِنسان للإِنسان. وعلى ذلك، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشراً كالمحكوم، هو لزوم كون من يمثل مقام الإِمرة مأذوناً من جانبه سبحانه لإِدارة الأُمور والتصرف، في النفوس والأموال، وأنْ تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه ومنبعثة منها ولولا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل.

 

وإنْ شئت قلت: إنَّ المقصود هو حصر الولاية الّتي تنبعث منها الحاكمية في الله سبحانه، لا حصر الإِمرة والتصدي لتنظيم البلاد، وإقرار الأمن في المجتمع. فالولاية وحق الحاكمية له سبحانه، وعلى ضوء ذلك يجب أنْ يكون المتمثل بها منصوباً من قبله سبحانه باسمه الخاص أو بوصفه المخصوص.

ولأجل ذلك نجد أنّ أمة كبيرة من جنس البشر تولوا منصة الحاكمية من جانب الله سبحانه وإذنه الخاص، يديرون شؤون الحياة الاجتماعية للإِنسان. وفي ذلك يخاطب الله نبيّه داود ويقول: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾(ص:26).

إنَّ الآية الكريمة وإنْ كانت واردة في تنصيب داود على القضاء، لكن نفوذ قضائه كان ناشئاً من حاكميته الواسعة الّتي تشمل الحكم والإِمرة بحيث كان نفوذ قضائه من لوازمها وفروعها. ولم يكن القضاء في تلك الأعصار منفصلاً عن سائر شؤون الحكومة ولم يكن شأن داود منحصراً في بيان الأحكام والمعارف، بل كان يتمتع بسلطة تامة تشمل التنفيذية والقضائية، بل التشريعية أيضاً بوحي من الله سبحانه.يقول سبحانه: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾(البقرة:251).

 

قال العلامة الطباطبائي: ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(يوسف:40). فالحكم لله لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه غير واحد من الآيات، غير أنه سبحانه ربما ينسب الحكم وخاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره، كقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِنْكُم﴾(المائدة:95)، وقوله للنبيّ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾(المائدة:49). وقوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾(المائدة:48) وقوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾(المائدة:44) إلى غير ذلك من الآيات، فإذا انضم هذا القسم من الآيات إلى القسم الأول الحاصر له بالله سبحانه يفيد أنَّ الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة وأوّلاً لا يستقل به أحد غيره، ويوجد لغيره بإذنه والعرض ثانياً، ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم لأنه لازم الأصالة والاستقلال فقال:﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾(التين:8) وقال: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾(الأعراف:87)، وعمّ الحكم التكويني فلا يوجد على ما أذكر ما يدل على نسبته إلى غيره، وإنْ كان معاني عامة الصفات والأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره انتساباً إذنياً، كالعلم والقدرة والحياة والخلق والرزق، والإِحياء والمشيئة الّتي انتسبت إلى غيره سبحانه في آيات كثيرة، ولعل عدم نسبة الحكم التكويني إلى غيره سبحانه لحُرْمَةِ جانبه تعالى لإشعار هذا الوصف بنوع من الاستقلال الّذي لا مُسَوّغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة. ونظيرها في ذلك ألفاظ البديع والبارئ والفاطر وألفاظ أُخرى تجري مجراها في الإِشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص، وإنما كُفّ عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحُرمة ساحة الربوبية(2).

 

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ الحاكمية فرع الولاية على المحكوم، ولا ولاية إلاّ لله سبحانه. فلا حكومة إلاّ له. غير أن تجسيد الحكومة في المجتمع، بمعنى الإِمرة عليه، ليس من شؤونه سبحانه، بل يقوم به المأذون من جانبه إمَّا بالاسم كما مرَّ في حق داود، أو بالوصف والعنوان كما هو الحال في حق العلماء والفقهاء الذين لهم الحكم والإِمرة عند غَيْبة النبي أو الإِمام المنصوص عليه بالاسم.

وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أنْ تكون شرعيتها مستمدة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه، وإذا كانت علاقتها وسيوافيك معنى الحُكم التكويني عند البحث عن القضاء والقدر التكويني، فإن الحكم التكويني هو القضاء التكويني. منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا قيمة لها، فلا حاكمية لأحد على أحد إلاّ من حكَّمَهُ الله على الإِنسان في ظل شروط خاصة من العدل والقسط ورعاية الأحكام الإِلهية.

ـــــــــــــــــــــــــ

1- لاحظ مجمع البيان، ج 3، ص 472.

2- الميزان، ج 7، ص 116 ـ 117.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد