كانط والخروج على الميتافيزيقا
مع كانط (Kant) ستنعطف ميتافيزيقا الحداثة باتجاه دنيوية صارمة تتعدى التعطيل الذي أجراه ديكارت على العقل، وحكم بقصوره وعجزه عن معرفة الأصل الذي صدر منه العالم. لقد انبرى إلى الأخذ بالأنا الديكارتية لتكون له القاعدة التي سيثبت من خلالها الاستقلال المطلق للإنسان. بينما رأى ديكارت أن الإنسان يكتشف الحقيقة فقط بوصفها أمرًا محدَّدًا مسبقًا بطريقةٍ إلهية. يرى كانط أن الإنسان يُشكّل هذه الحقيقة بفضل موارده الذاتية الخاصة به. ثم سعى بناء على هذا إلى نقض الآراء التي كان يراها غير وافية للمفكرين المنطقيين المتأخرين عن ديكارت مثل “ليبنبز”(Leibniz)، و”وولف” (Wolf)، وكذلك آراء العلماء التجريبيين المتأخرين عن ديكارت كـ”لوك” (Locke)، و”هيوم” (Hume). لتحقيق هذا الأمر، وضع كانط الأرضية لشمولية العلم وضرورته ولإطلاق حقيقة القيم الأخلاقية ليس في منطق الله وإرادته بل في الأشكال البديهية لفهم الإنسان واستقلالية عقله العملي المحض. وهكذا راح كانط يطوِّر ما سمي بـ “ميتافيزيقا المحدود”؛ الذي لا يزال يُلهمُ التفلسف المعاصر في الغرب بمجمل أوجهه وتياراته[14].
لم يأخذ كانط عن ديكارت وحسب. ففي عام 1756 سينصرف إلى أعمال الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم وينأخذ بها حتى الانسحار. جاءه كلام هيوم كانعطافٍ حاسم: “إن أي فيلسوف لا يقدر على تفسير قدرة الأسباب وقوتها السرية”، وإن القوة القصوى وفاعلية الطبيعة مجهولة تمامًا بالنسبة إلينا، وإن البحث عنها في كل الصفات المعروفة للمادة مجرد هباء.. وبالتالي فإن القدرة التي تسبب النتائج الطبيعية واضحة لحواسنا، ولا بدّ من أن تكون هذه القدرة في الله. وأن الله ليس فقط هو الذي خلق المادة أولًا فحسب، ووهبها حركتها الأساسية، وإنما بذلًا لقدرة الكلية ليدعم وجودها ويمنحها كل تلك الحركات الموهوبة لها.. ثم يتساءل: “إذا لم يكن عندنا فكرة كافية عن “القدرة” و”الفاعلية” و”السببية” يمكن تطبيقها على المادة، فأين يمكننا أن نحصل على فكرة تنطبق على الله؟..”.
بسبب هيوم وشكوكيته سيهتز إيمان كانط بشرعية المعرفة الميتافيزيقية. من بعد ذلك سيميلُ نحو منفسح آخر من التفكير الفلسفي. وكان له أن يعرب عن ذلك في مؤلفه “مقدمات نقدية”: “لقد أيقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوغمائي”. ثم انبرى إلى الحكم على الميتافيزيقا ـ كمعرفة إيجابية ـ بالموت.
لقد أثّر نقدُ كانط لأدلة وجود الله بشكلٍ عميقٍ على الفكر الذي تلاه، وأسهم بصورة بيِّنة في تنمية الإلحاد الفلسفي المعاصر. حتى اليوم، يُعترفُ على نطاق واسع، وغالبًا من دون نقد، أنّ كانط دمّر بشكلٍ حاسمٍ إمكانية الدليل المنطقي على وجود الله. على الرغم من ذلك، فإن إسهامه الفكري في ما يتعلق بمسألة الله وتطوّر الإلحاد لا يقتصرُ على هذا المحور. ومن المهم أن نفهم هنا لماذا ومن أي ناحية لم يعتبر أنّ تمام موقفه الفلسفي هو إلحادي، بل خلاف ذلك هو دفاعٌ عن إمكانية وجود نوعٍ محدَّد من الإيمان الديني. المفارقة اللافتة أن كانط كان يعي المخاطر المترتبة على نظامه الميتافيزيقي، وهو ما يتّضح من خلال تحذيره الصريح من أن يؤدي نقضه لأدلّة وجود الله إلى استنتاجات إلحادية. ومن البيِّن أنه بدا هنا كما لو أنّه يتموضع في “حقل اللَّاأدرية” من دون أن يصرِّح بذلك. فهو يشيرُ إلى أنّ الأسس التي تمنعُ الإثبات الميتافيزيقي لوجود الله هي نفسها الأسس التي تمنع صلاحية جميع الأدلة المعارضة. وما ينطبقُ على الأول ينطبق على الآخر، وإذا لم نتمكّن خارج التجربة من التدبّر بشكل صحيح حول وجود كائن أعلى بصفته العلّة النهائية لكل شيء، فعلى المنوال نفسه لا يمكننا التدبّر خارج التجربة بعدم وجود هذا الكائن الأعلى[15].
ومع أن مثل هذا المقابلة بين مدّعيات النفي والإثبات وقوله بتعادل حجيِّة كل منهما، صار من المنطقي اعتباره مسوِّغًا للنزعة اللاَّ أدرية التي ستؤسس في ما بعد لنزعات إلحادية ستظهر بقوة جامحة في الزمن العلماني الغربي.
في مفتتح كتابه الذي صدر عام 1763 بعنوان “بحث في وضوح مبادئ اللاَّهوت الطبيعي والأخلاق”، ذكر إيمانويل كانط أن الميتافيزيقا ـ هي بلا أدنى شك ـ أكثر الحدوس الإنسانية قوة لكنها لم تُكتب بعد.. وفي كتابه “نقد العقل الخالص” أراد أن يدوِّن الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدة من اليونان إلى مبتدأ الحداثة. لقد شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنما امتلك عقلًا حرًّا، بعدما ظن أنه تحرَّر تمامًا من رياضيات ديكارت. راح يرنو إلى الإمساك بناصيتها ليدفعها نحو منقلب آخر. لكن حين انصرف إلى مبتغاه لم يكن يتخيل أن “الكوجيتو الديكارتي” رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها مطلقًا. ربما غاب عنه يومئذٍ أن تخلِّيه عن منهج ديكارت الرياضي لن ينجيه من سطوة “الأنا أفكر” ولو اصطنع لنفسه منهجًا آخر. كانت قاعدته الأولى عدم البدء بالتعريفات كما يفعل علماء المنطق الرياضي، بل عليه البحث عما يمكن إدراكه في كل موضوع عن طريق البرهان المباشر. كأن يقومُ المبرهَنْ عليه من تلك الإدراكات بالتعبير مباشرة عن نفسه بحكمٍ ما. أما قاعدته الثانية فقد نهضت على إحصاء كل الأحكام بشكل منفصل، والتيقُّن من أن لا يكون أيّ منها متضمَّنًا في الآخر. وأخيرًا وضع الأحكام الباقية كأوليات أساسية ينبغي بناء كل المعرفة اللاحقة عليها.
سَيبينُ لنا جرَّاء ما سَلَفَ أن النقد الكانطي للميتافيزيقا لم يكن سوى إنشاء متجدِّد للشك الديكارتي بوسائل وتقنيات أخرى. فالمشروع النقدي الذي افتتحه كانط هو في مسراه الفعلي امتدادٌ جوهريٌّ لمبدأ الـ “أنا أفكر” المؤكِّدة لوجودها بالشك. وهو المشروع الذي أسس لسيادة العقل، وَحَصَر الهم المعرفي الإنساني كله بما لا يجاوز عالم الحس. لكن انهمامه بالعقلانية الصارمة سيقوده راضيًا شطرَ الكوجيتو الديكارتي حتى ليكاد يذوي فيه. الأمر الذي سيجرُّ منظومته الفلسفية نحو أظِلَّة قاتمة لم تنجُ الحضارة الحديثة من آثارها وتداعياتها حتى يومنا هذا[16].
وما من ريب أن منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره أيضًا، وأساسًا بالميراث الأرسطي المتين، سوف تُستدرج إلى تناقض بيِّن في أركانها. لعلّ أوّل ما ينكشف من هذا التناقض هو ما يعرب عنه السؤال التالي: كيف يمكن أن يستخدم كانط العقل كوسيلة ليبرهن أن هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعلية بالأشياء كما هي واقعًا؟ وكيف يمكن أن يعلن أن المرء لا يستطيع تحصيل معرفة الشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمر في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أن مجمل حججه لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو في حقيقته. وهذا لا ينطبق عليه فحسب، بل يشمل أيضًا كل الفلاسفة الذين تشابهت عليهم مكانة العقل وحدوده. فإذا كنا لا نعرف إلا ظواهر الأمور، فكيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنا لا نعرف إلا الظاهر فقط، فهل ثمة معنى لقولنا إننا نعرف شيئًا ما؟ وأما سبب هذه التناقضات على الجملة فتكمن في أن الفلسفة النقدية استثنت معرفة اللَّه والدين النظري من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل[17].
اضطُرَّ كانط لمواجهة اليأس من التعرّف على “سرّ الشيء في ذاته”، إلى أن يبتني أسس المعرفة الميتافيزيقية بوساطة العلم. استبدل التعريفات المجردة بالملاحظة التجريبية، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه وكأنه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقر في محراب الفيزياء. وليس كلامه عن أن “المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدمه نيوتن في العلوم الطبيعية”، سوى شهادة بيِّنة على نزعته الفيزيائية. لقد رأى أن إلغاء الميتافيزيقا تمامًا سيكون مستحيلًا، وأن أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسميه بالعقيدة العلمية الجديدة. وهي العقيدة التي سيضعها تحت عنوان “الإمكان الميتافيزيقي” في العالم الطبيعي، وتقوم على التمييز المنهجي بين عالمين غير متكافئين: عالم الألوهية وعالم الطبيعة. غير أن التمييز الكانطي بين هذين العالمين سيغدو في ما بعد تفريقًا بين الكائن المتعالي فوق الزمان والمكان، وبين الدين بما هو كائن تاريخي ثاوٍ في الزمان والمكان. مع هذا التفريق سينفجر التأويل وتتعدد القراءات ليُرى إلى كانط تارة كفيلسوفٍ مؤمن توارى إيمانه بين السطور والألفاظ، أو كملحدٍ لا يرى إلى الله إلا كمتخيَّل بشري…
بالتأكيد لن يُحمل على كانط أنه كان عدوًّا للإيمان، لكن عَيْبَه الموصوف أنه أسس لـ “مانيفستو فلسفي” يقطع صلات الوصل المعرفية بين الله والعالم، وبالتالي بين الدين والعقل. هذا هو الإجراء “الكوبرنيكي” الذي شقّ الميتافيزيقا إلى نصفين متنافرين (ديني ـ دنيوي) وما سينتهي إليه من غلبة الدنيوي المحض على أزمنة مديدة من أنوار الحداثة.
مع هذا، فقد بدا كانط كما لو أنه فتح الكوة التي ستتدفق منها موجات هائلة تعادي التنظير الميتافيزيقي ولا تقيم له وزنًا في عالم الإمكان الفيزيائي. أهل الميتافيزيقا المثلومة من مثل هؤلاء أخذوا مقالته بشغف ولا يزالون عاكفين عليها كأمر قدسي. لقد أعادوا إنتاج القطيعة بين الكائن الذي لا يُدرك والموجود الواقع تحت راحة اليد. وفي أحقاب متأخرة حرصوا على وقف مهمة الميتافيزيقا حينًا على التحليل العلموي، وحينًا آخر من أجل استخدامه في عملية التوظيف الأيديولوجي. وعليه، فقط دأبوا على إحاطتها بسوار لا ينبغي فكّه إلا عند الاقتضاء. فلا تصبح الميتافيزيقا ممكنة إلا متى كان هناك مجال شرعي للمبحث الميتافيزيقي، في حين تكون العلوم التجريبية هي الحاكم، بل هي وحدها القادرة على إنبائنا ببنية الواقع الأساسية.
لم يكن الحاصل من تصيير الميتافيزيقا علمًا متاخمًا للعلوم الإنسانية وسيَّالًا في ثناياها، سوى طغيان النزوع العقلاني على الثقافة الغربية منذ أرسطو إلى يومنا هذا. ولقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه إلى إنشائها على نصاب جديد عبر تحويلها إلى موقف ينزلها من علياء التجريد إلى الانهمام بالعالم. لكن بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العملية الإدراكية للموجود بذاته والموجود بغيره، راح يفصل بين العالمين ليبتدئ زمنًا مستحدثًا تحولت معه الميتافيزيقا إلى فيزياء أرضية محضة[18].
ــــــــــــــــــــــ
[14] باتريك ماسترسون، الإلحاد والاغتراب، بحث في المصادر الفلسفية للإلحاد المعاصر – (atheism and Alienation)، (بيروت: المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، 2017)، الصفحة28.
[15] ماسترسون، الإلحاد والاغتراب، مصدر سابق، الصفحة 34.
[16] أنظر: محمود حيدر، الميتافيزيقا المثلومة، فصلية “الاستغراب”، العدد التاسع، السنة الثالثة، خريف 2017.
[17] رولاند بيتشي، مصدر سبقت الإشارة إليه.
[18] محمود حيدر، الميتافيزيقا المثلومة، مصدر سبقت الإشارة إليه.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان