يمكننا بسهولة أن نفسّر نشوء العلم بنفي محدّد (العلم التفصيلي)، فأنت حين تقول: هذه الورقة ليست سوداء، أو إنّ تأريخ الطبري ليس موجوداً في مكتبتي يمكنك أن تستند في ذلك إلى رؤيتك للورقة، وإدراكك بأنّها ليست سوداء، وإلى رؤيتك لمكتبتك، وافتقادك لتأريخ الطبري من بين كتبك.
وأمّا العلم بنفي غير محدّد (العلم الإجمالي) فإنّه حين تتحدّث عن ورقة تجهل لونها بالضبط غير أنّك تعلم على أيّ حال أنّها ليست سوداء وبيضاء في وقت واحد، فتقول: إنّ أحد اللونين على الأقلّ - السواد أو البياض - غير موجود في الورقة، لا تستند في تأكيدك لهذا النفي غير المحدّد إلى رؤيتك للورقة وإحساسك بلونها؛ لأنّك لو كنت قد رأيت الورقة لاستطعت أن تحدّد لونها بالضبط، وإنّما تؤكّد ذلك النفي غير المحدّد قبل رؤية الورقة نتيجة للعلم المسبق بأنّ السواد والبياض لا يجتمعان في شيء واحد.
كما أنّ علمك غير المحدّد بأنّ أحد كتب التأريخ قد فقد من مكتبتك لا يمكن أن يكون نتيجة لتفتيش شامل للمكتبة كلّها، إذ في هذه الحالة سوف تعرف عادةً الكتاب المفقود بالضبط، ولن يكون النفي لديك غير محدّد، فيجب أن يكون هذا العلم نتيجة لشيء آخر.
ونحن إذا درسنا الظروف التي ينشأ فيها العلم بنفي غير محدّد (العلم الإجمالي) نجد أنّ هذا العلم يتولّد في حالتين:
الأولى: أن يدرك الإنسان التمانع بين شيئين أو مجموعة من الأشياء، فيعلم على هذا الأساس بنفي غير محدّد، أي بأنّ واحداً منها على الأقلّ غير موجود؛ لأنّ افتراض وجودها جميعاً لا ينسجم مع التمانع الثابت بينها.
ومثال ذلك: العلم بنفي أحد اللونين على الأقلّ - البياض أو السواد - عن الورقة، فإنّ هذا العلم نشأ عن إدراك التمانع بين السواد والبياض، واستحالة اجتماعهما «1».
والعلم في هذه الحالة ينصبّ بطبيعته على عدم اجتماع السواد والبياض، والمعلوم بهذا العلم هو عدم اجتماع اللونين، لا عدم هذا ولا عدم ذاك.
الحالة الثانية: أن لا يدرك الإنسان أيّ تمانع بين وجود هذا الشيء ووجود ذاك، ومع هذا يعلم بأنّ أحدهما على الأقلّ غير موجود، ومثال ذلك علمك بأنّ أحد كتب التأريخ (للطبري أو ابن الأثير أو اليعقوبي) قد فقد من مكتبتك، إذا دخلت إلى المكتبة ورأيت فراغاً في رفّ كتب التأريخ، ولم تقترب منه لتعرف نوع الكتاب المفقود بالضبط، ففي حالة من هذا القبيل، يوجد لديك علم بنفي غير محدّد (علم إجمالي)، لأنّك تعلم أنّ واحداً من كتب التأريخ غير موجود، ولا تستطيع أن تحدّده، وبالرغم من علمك هذا لا ترى أيّ تمانع وتضادّ بين هذه الكتب كالتمانع الذي كنّا نراه في الحالة السابقة بين السواد والبياض. وهذا يعني: أنّ علمنا بنفي غير محدّد في هذه الحالة، لا يقوم على أساس إدراك التمانع بين مجموعة من الأشياء واستحالة اجتماعها في وقت واحد، كما في الحالة الأولى، بل يقوم على أساس نفي محدّد في الواقع تشابه علينا، ولم نستطع تمييزه، فنشأ من أجل ذلك علم بنفي غير محدّد «2».
ففي مثال المكتبة، إذا افترضنا أنّ الفراغ الذي لاحظناه في رفّ كتب التأريخ كان يمثّل موضع تأريخ الطبري، ولكنّا لم نعرف في النظرة الأولى ذلك؛ لأنّنا لم نتذكّر موضع تأريخ الطبري بالضبط، فمن الطبيعي أن نعلم بنفي غير محدّد، وإن كان هذا العلم نفسه نتيجة لنفي محدّد في الواقع، وهو فقدان كتاب تأريخ الطبري بالذات، إذ لو لم تفقد المكتبة تأريخ الطبري لما لاحظنا فراغاً في رفّ كتب التأريخ، ولما تكوّن لدينا العلم بنفي غير محدّد.
ونستخلص من ذلك كلّه: أنّ العلم بنفي غير محدّد (العلم الإجمالي) قد ينشأ من إدراك التمانع بين شيئين أو مجموعة من أشياء، وقد ينشأ من نفي محدّد في الواقع وقد تشابه على الملاحِظ فنتج عن ذلك علم بنفي غير محدّد، ولو زال ذلك التشابه لكان هذا النفي غير المحدّد هو نفس ذلك النفي المحدّد في الواقع ونطلق على العلم بنفي غير محدّد في الحالة الأولى اسم (العلم الإجمالي على أساس التمانع) وعلى العلم بنفي غير محدّد في الحالة الثانية اسم (العلم الإجمالي على أساس التشابه أو الاشتباه).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومن خصائص هذا القسم من العلم الإجمالي أنّ المعلوم بالإجمال فيه ليس معيّناً حتّى في ذات الواقع، ولهذا لو كان كلا اللونين منتفياً في الواقع لم يمكن تعيين المعلوم بالإجمال في أحدهما دون الآخر...
(2) ومن خصائص هذا القسم من العلم الإجمالي أنّ المعلوم بالإجمال فيه له تعيّن في ذات الواقع وإن خفي علينا ذلك..
السيد محمد باقر الصدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطهراني
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان