
المترجم: عدنان أحمد الحاجي
هل سبق لك أن كنت في مشوار طويل بالسيارة وأدركت على حين غرة أنك بالكاد تتذكر ما جرى وما مر عليك خلال الدقائق القليلة الماضية من ذلك المشوار؟
بالرغم من أن فكرة قيادة السيارة دون إيلاء انتباه واعٍ بالطريق قد تكون مزعجة، إلا أنّنا في الواقع نتصرف بتصرفات معقدة بدون أدنى تفكير طوال اليوم - كل هذا بفضل هذه الذاكرة الضمنية (1).
في أبسط أشكالها، تقوم الذّاكرة بوظيفة أساسية واحدة: وهي تشكيل اقترانات بين أشياء متزامنة (2) [الذاكرة الاقترانية أو الذاكرة الترابطية]. كما نربط بين اسم شخص ووجه، أو رائحة طعام ونوعه، هذا النوع من الذاكرة يساعد على اقتران بعض السياقات بأفكار وأفعال محددة (3).
على سبيل المثال، حين نتعلم قيادة السيارة، يقال لنا متى نضع قدمنا على دواسة الفرامل في كل مرة نرى ضوء الفرامل الخلفية لسيارة تسير أمامنا. حين نكتسب خبرة قيادة السيارة ويتكرر هذان الحدثان تزامنيًّا معنا [رؤية ضوء الفرامل ووضع الرجل على دواسة الفرامل]، نكون مستعدين تلقائيًّا وبشكل مباشر لوضع قدمنا على دواسة الفرامل في اللحظة التي نرى فيها ضوء فرامل السيارة أمامنا - دون أن نحتاج إلى التفكير ولو لحظة في ذلك الفعل.
أو ربما قد لاحظت مدى السلاسة في قدرتك على التنقل من تطبيق على هاتفك الذكي إلى تطبيق آخر - كما لو كان لإبهامك دماغه الخاص به - وأنه لو حدث وأن غيّر شخص ترتيب أيقونات التطبيقات على شاشة تلفونك الرئيسة، فقد لا تكون سلاسة هذا التنقل سهلاً بعد ذلك وقد لا يخلو تعلمه مرة أخرى من صعوبة.
في كل مرة نقوم بعمل ما، جهاز ذاكرتنا يقوم بربط هذا السلوك بالسياق القائم (الحالي). بعد اكتساب خبرة كافية، السلوكيات التي كانت تتطلب تحكمًا واعيًا يمكن إثارتها بمجرد مصادفتنا لسياق مألوف (4).
هذه السلوكيات التلقائية تثبت كيف يمكن للذاكرة التحكم في سلوكنا دون الحاجة إلى تذكُّر الأحداث الماضية تذكرًا واعيًا (5) [أي بمعنى أن يتحول هذه إلى اللاوعي]. حتى أن بعض الباحثين يطلقون على هذا النموذج من الذاكرة "التحكم التلقائي (1، 6)".
نظرًا لأن الذاكرة التلقائية (1) ذاكرة لاواعية (تجري في اللاوعي) بطبيعتها، فإننا لا نلاحظ في كثير من الأحيان مدى أهمية هذه الذاكرة اللاواعية لمعظم سلوكياتنا اليومية. الذاكرة التلقائية تمكننا من القيام بوظائفنا اليومية بكفاءة.
لو لم نتمكن من الاعتماد على التحكم التلقائي في تذكر بعض التصرفات الرئيسة بشكل تلقائي أثناء قيادة السيارة، فمن المحتمل جدًّا ألّا ننجو من جراء ما ننسى أنفسنا في غمرة شرود الذهن المتكرر (7) أثناء القيادة على الطريق السريع. إذا كان كل تفكير وعمل يتطلب قرارًا واعيًا، فإن من شأن أشياء بسيطة، كالمشي والكلام، أن تصبح مهمة شاقة جدًّا.
اتخاذ القرارات تلقائيًّا
سيناريوهات قيادة السيارة [الحالات التي تتعرض لها والمتعلقة بالقيادة، مثل زحمة المرور ونسيان موقف السيارة ومشكلات الطريق الأخرى] معروفة لدى الناس، مما يجعلها وسائل مفيدة لبيان كيف تعمل الذاكرة التلقائية (1). كما أنها تُظهر مدى أهمية هذا النوع من الذاكرة بالنسبة لنا لنقوم بوظائفنا اليومية بفعالية.
بيد أنك بمجرد أن تبدأ في البحث عن ذاكرة تلقائية في مجالات أخرى، فلن تجد سلوكيات لا تعتمد على هذه الذاكرة اللاواعية. حتى لو حاولنا بشكل مقصود ضبط انتباهنا فقد تعتمد هذه العملية أيضًا على الذاكرة التلقائية (1، 8).
على سبيل المثال، لماذا تتبادر إلى الذهن أشياء معينة عندما ندخل في اجتماع مع رئيسنا - بينما تتبادر إلى الذهن أشياء مختلفة جدًّا حين نلتقي بصديق قديم؟ ليس الأمر كما لو أننا نتخذ دائمًا قرارات مقصودة بشأن ما يجب تذكره في هذه الحالات.
التفسير هو أن هذين السيناريوهين المختلفين [الاجتماع بالرئيس والالتقاء بالصديق] يرتبط كل منهما بتجارب سابقة مختلفة (9). عندما نلتقي بشخص ما، فإن التجارب المقترنة به تتبادر إلى الذهن تلقائيًّا نتيجة للذاكرة التلقائية التي كوّناها سابقًا.
بالرغم من أن الذاكرة التلقائية ضرورية لأداء وظائفنا اليومية، إلا أن لها تبعات سلبية. على سبيل المثال، يجد كل شخص نفسه يتصرف بنفس التصرف مرارًا وتكرارًا في الحالات والمواقف المألوفة - حتى عندما تتعارض هذه التصرفات مع الطريقة أو الأسلوب الذي يفضل الشخص إن يتصرف به. ولكن الحقيقة هي، لو كنا نريد تغيير أنماط سلوكنا (عاداتنا)، نحتاج إلى فرص متكررة لتشكيل اقترانات جديدة (10) بحيث تكون سلوكياتنا التلقائية تتوافق مع أهدافنا.
إحدى استراتيجيات التغلب على الذاكرة التلقائية تتمثل في ممارسة السلوكيات التي تريد تغييرها في سياقات جديدة. على سبيل المثال، إذا وجدت أن النقاش الصعب مع شريك حياتك ينتهي دائمًا بردود فعل سلبية دون معنى، فربما تحتاج إلى محاولة إجراء تلك المناقشات أمام صديق أو أمام معالج نفسي. [النقاش الصعب يتناول عادةً مواضيع حساسة أو مثيرة للجدل أو مشحونة عاطفيًّا، غالبًا ما تنتهي إلى خلاف أو نزاع أو انزعاج، بحسب التعريف (11)].
تغيير السياق مثل هذا يحد من فرص إثارة ردود فعلك السلبية المعتادة، مما قد يساعد في سهولة تغيير سلوكياتك في اللحظات الحرجة. أما بالنسبة للسلوكيات التي اعتدت على ممارستها طوال حياتك، فلا توجد حيلة سريعة للتغلب على ما يعيق تغييرها، حيث يحتاج ذلك إلى جهد ووقت.
لهذا السبب، كخبير في الذاكرة والانتباه، أجد نفسي متعاطفًا مع الذين يواجهون صعوبة في تغيير عاداتهم القديمة. وهذا هو السبب في أنني أصاب بالرعب بما في الكلمة من معنى حين تضاف إشارة توقف مرورية جديدة إلى تقاطع اعتاد السائقون على أن يكون لهم حق المرور [ولذا يتجاوزن ذلك التقاطع بحسب العادة بلا انتباه إلى تلك الإشارة الجديدة].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- "الذاكرة الضمنية implicit memory أو الذاكرة اللاواعية unconscious memory أو الذاكرة التلقائية automatic memory هي إحدى نوعي الذاكرة طويلة الأمد عند البشر. تُكتسب هذه الذاكرة واستعمالها بشكل لا واعٍ، وتستطيع التأثير في أفكارنا وسلوكياتنا. أشهر أشكالها هي الذاكرة الإجرائية procedural memory، والتي تساعد البشر على القيام ببعض المهام بدون إدراك واعٍ للتجارب السابقة. في الحياة العادية، يعتمد الناس على الذاكرة الضمنية كل يوم بشكلها المعروف بالذاكرة الإجرائية، وهي نمط الذاكرة الذي يُمكن الناس من تذكر كيف يربطون خيط أحذيتهم وركوب دراجاتهم دون استخدام التفكير الواعي أثناء القيام بهذه النشاطات". مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/ذاكرة_ضمنية
2- http://https://www.jneurosci.org/content/35/44/14885
3- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037/bul0000047
4- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037/0033-295X.84.2.127
5- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037/0003-066X.45.9.1043
6- https://psycnet.apa.org/fulltext/2018-30695-001.html
7- https://ar.wikipedia.org/wiki/شرود_ذهني
8- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037/cep0000327
9- http://https://alicekim.ca/BehavBrainSci84_7.pdf
10- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037/0033-295X.84.1.1
11- https://en.wikipedia.org/wiki/Difficult_conversation
المصدر الرئيس
معنى (وفق) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
الصدقات وعجائب تُروى
عبدالعزيز آل زايد
حقوق الرعية على الوالي عند الإمام عليّ (ع)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
صفة الجنة في القرآن الكريم
الشيخ محمد جواد مغنية
لماذا ينبغي استعادة أفلاطون؟ (1)
محمود حيدر
معـاني الحرّيّة (4)
الشيخ محمد مصباح يزدي
(الغفلة) أوّل موانع السّير والسّلوك إلى الله تعالى
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (2)
الشيخ شفيق جرادي
(مفارقة تربية الأطفال): حياة الزّوجين بحلوها ومرّها بعد إنجابهما طفلًا من منظور علم الأعصاب الوجداني
عدنان الحاجي
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (وفق) في القرآن الكريم
الصدقات وعجائب تُروى
حقوق الرعية على الوالي عند الإمام عليّ (ع)
صفة الجنة في القرآن الكريم
لماذا ينبغي استعادة أفلاطون؟ (1)
معـاني الحرّيّة (4)
عبير السّماعيل تدشّن روايتها الجديدة (هيرمينوطيقيّة أيّامي)
(الغفلة) أوّل موانع السّير والسّلوك إلى الله تعالى
معنى (منى) في القرآن الكريم
ثلاث خصال حمدية وثلاث قبيحة