كل لفظ في القرآن الكريم اختير مكانه وموضعه من الآية أو العبارة أو الجملة فإن غيره لا يسد مسدّه بداهة، فقد اختار القرآن اللفظ المناسب في الموقع المناسب من عدة وجوه، وبمختلف الدلالات، إلا أن استنباط ذلك صوتيًّا يوحي باستقلالية الكلمة المختارة لدلالة أعمق، وإشارة أدق، بحيث يتعذر على أية جهة فنية استبدال ذلك بغيره، إذ لا يؤدي غيره المراد الواعي منه، وذلك معلم من معالم الإعجاز البياني في القرآن.
1- في قوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ : 10]. جرس موسيقي حالم، وصدى صوتي عميق، وإطلاق للأصوات من أقصى الحلق وضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها، فيما به يتعين موقع «أوبي» بحيث لا يسدّ مسدّها غيرها من الألفاظ، فالمراد بها ترجيع التسبيح من آب يؤوب، على جهة الإعجاز بحيث تسبح الجبال، وهو خلاف العادة، وخرق لنواميس الكون في ترديد الأصوات من قبل ما لا يصوت، ولو استبدل هذا اللفظ في غير القرآن لعاد النظر مهلهلاً، والدلالة الصوتية منعدمة.
قال الزمخشري (ت : 538 هـ): «فإن قلت: أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: وآتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية، وكبرياء الألوهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارًا بأنه ما من حيوان وجماد، وناطق وصامت إلا وهو منقاد إلى مشيئته، غير ممتنع عن إرادته» (1).
وتقرأ الآية {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ : 10]. بالتشديد، وتقرأ بالتخفيف، فمن قرأ (أوّبي) بالتشديد فمعناه: يا جبال سبحي معه، ورجعي التسبيح لأنه قال: سخرنا الجبال معه يسبحن، ومن قرأ (أوبي) بالتخفيف، فمعناه: عودي معه بالتسبيح كلما عاد فيه (2).
فالنظام الصوتي بهذا هو الذي يحقق المعني الجملي، فإن كانت (أوبي) بالتشديد، وهي القراءة المتعارفة، فالمراد: التسبيح في ترديده وترجيعه، وإن كانت بالتخفيف، فتعني الرجوع والأوبة، وعليه فالمراد إذن: العودة إلى التسبيح كلما عاد.
2- في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت : 41]. تبرز كلمة «أوهن» لتعطي معنى الضعف، وقد تحقق هذا المعنى كلمة (أوهى) ولكن القرآن الكريم استعمل أوهن دون أوهى، وذلك لما يفرزه ضم حروف الحلق، وأقصى الحلق إلى النون من التصاق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها صوتيًّا، وحينئذ تصل الكلمة إلى الأسماع، وتصك الآذان، وهي تحمل لونًا باهتًا للعجز مؤكدًا بضم هذه النون - من ملحظ صوتي فقط - إلى تلك الحروف لتحدث واقعًا خاصًّا يشعر بالضعف المتناهي لا بمجرد الضعف وحده. وكان هذا بتأثير مباشر من دلالة اللفظ الصوتية، إذ أحدثت فيها النون وهي من الصوامت الأنفية صدى وإيقاعًا لا تحدثه الألف المقصورة وهي صوت حلقي خالص، لا غنّة معه، ولا ضغط، ولا إطباق.
وهذا التشبيه باختيار هذا اللفظ صوتيًّا، يجمع إليه إيحائيًّا دلالة أن الأصنام والأشخاص والقيم اللاإنسانية... واهنة متداعية عاجزة حتى عن حماية كيانها، وصيانة وجودها، لأنها في تكوين رخو واهن، وبناء تتداعى أركانه، ومثل هذا التكوين وذلك البناء لا اعتماد عليهما، ولا اعتداد بهما، إنما القوة باللّه، والحماية من اللّه، والالتجاء إلى اللّه فهو وحده الركن القويم.
قال الزمخشري (ت : 538 هـ): «و قد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دنيًا دينًا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون» (3).
وإذا كان القرآن الحكيم قد امتاز بتخير الألفاظ وانتقائها، فإنه يرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك: «من قوة تعبيرية، بحيث يؤدي بها فضلاً عن معانيها العقلية، كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة، ومشاعر كامنة، لفّت نفسها لفًّا حول ذلك المعنى العقلي» (4). وهو ما تنبّه إليه الزمخشري في تعليله ذلك من ذي قبل.
3- وفي قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل : 76].
تنهض كلمة «كل» وهي صارخة مشرأبة، لتوحي عادة بمعنى العالة في أبرز مظاهرها، وقد استعملها القرآن لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل، لهذا الصدى الصوتي الخاص المتولد من احتكاك الكاف وإطباق اللام على اللهاة، وما ينجم عن ذلك من رنة في الذاكرة، وشدة على السمع، فصوت الكاف في العربية، وهو من حروف الإطباق، شديد انفجاري مهموس، وصوت اللام في العربية، وهو من حروف الأسنان واللثة، مجهور متوسط بين الشدة والرخاوة (5).
وقد اجتمع المهموس والمجهور معًا في هذا اللفظ، فإذا علمنا أن المهموس هو الصوت الذي يظل النفس عند النطق به جاريًا لا يعوقه شيء، وأن المجهور هو الصوت الذي يمتنع النفس عن الجريان به عند النطق أدركنا سر اجتماع الكاف المهموسة واللام المجهورة في هذا اللفظ، وما في ذلك من عسر في اللفظ دال على عسر المعنى وغلظته.
يقول أستاذنا المخزومي: «فإذا اجتمع صوت مجهور، وآخر مهموس، فقد اجتمع صوتان مختلفان لكل منهما طبيعة خاصة، والجمع بين هذين الصوتين يقتضي عضو النطق أن يعطي كل صوت منهما حقه، وفي ذلك عسر لا يخفى، فإذا تألفت كلمة وقد تجاور فيها صوتان، أحدهما مجهور، والآخر مهموس، فما يزال أحدهما يؤثر في الآخر حتى يصيرا مجهورين معًا، أو مهموسين معًا» (6).
لقد ظل النفس جاريًا مستطيلًا في اللام عند مجاورتها للكاف، وزاد التشديد في استطالتها، لتوحي الكلمة بأبعادها الصوتية: بأن هذا العبد شؤم لا خير معه، وبهيمة لا أمل بإصلاحه، فهو عالة وزيادة، بل هو «كل» بكل التفصيلات الصوتية لهذا اللفظ.
لقد كان اختيار اللفظ المناسب للصوت المناسب حقلاً يانعًا في القرآن لا للدلالة الصوتية فحسب، بل لجملة من الدلالات الإيحائية واللغوية والهامشية، وتلك ميزة القرآن الكريم في تخير الألفاظ.
_______________________
(1) الزمخشري ، الكشاف : 3/ 281.
(2) ابن منظور ، لسان العرب : 1/ 212.
(3) الزمخشري ، الكشاف : 3/ 206.
(4) تشارلتن ، فنون الأدب : 76.
(5) ابن جني ، سر صناعة الأعراب ، 1/ 69.
(6) مهدي المخزومي ، في النحو العربي ، قواعد وتطبيق : 8.
الشيخ حسين الخشن
الشيخ حسن المصطفوي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ محمد مصباح يزدي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد صنقور
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (روازن) بنسخته الخامسة
ثمرات المودّة والتودّد
معنى (وتر) في القرآن الكريم
اللفظ المناسب للصوت المناسب
الاعتدال بين الانزواء والعِشرة
التّعوّد على النّشاط الرّياضي من الصّغر يحافظ على اللّياقة الصحيّة
خيمة المتنبّي تحتفي بثلاث مجموعات شعريّة أولى
سبب تجاعيد البشرة مع التقدم في السن
اهتمام الإسلام بالعدل
معنى (سرب) في القرآن الكريم