قرآنيات

أوجه التفسير


الشيخ محمد هادي معرفة ..
أخرج الطبري بعدة أسانيد إلى ابن عباس، قال: التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامه، وتفسير لا يعذر أحد العلماء بجهالته، وتفسير يعلمه العلم، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه تعالى1.
قال الزركشي في شرح هذا الكلام: وهذا تقسيم صحيح
فأما الذي تعرفه العرب، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك شأن اللغة والإعراب.
فأما اللغة، فعلى المفسر معرفة معانيه، ومسميات أسمائه، ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم، كفى فيه خبر الواحد والاثنين، والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم، لم يكف ذلك، بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ، وتكثر شواهده من الشعر.
وأما الإعراب، فما كان اختلافه محيلًا للمعنى، وجب على المفسر والقارئ تعلمه، ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلًا للمعنى، وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن، ولا يجب على المفسر، لوصوله إلى المقصود دونه، على أن جهله نقص في حق الجميع.
إذا تقرر ذلك، فما كان من التفسير راجعًا إلى هذا القسم، فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب، وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفاهيمها تفسير شيء من الكتاب العزيز، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منه، فقد يكون اللفظ مشتركًا، وهو يعلم أحد المعنيين.
الثاني: ما لا يعذر أحد بجهله، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدًا جليًّا لا سواه، يعلم أنه مراد اللّه تعالى.
فهذا القسم لا يختلف حكمه، ولا يلتبس تأويله، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد،من قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾2 وأنه لا شريك له في الهيته، وإن لم يعلم أن "لا" موضوعة في اللغة للنفي و"الا" للاثبات، وان مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾3 ونحوها من الأوامر، طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود، وإن لم يعلم أن صيغة "أفعل" مقتضاها الترجيح وجوبًا أو ندبًا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد أن يدعي الجهل بمعاني الفاظه، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة.
الثالث: ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى، فهو يجري مجرى الغيوب، نحو الآية المتضمنة قيام الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، وتفسير الروح، والحروف المقطعة.
وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف، من أحد ثلاثة أوجه:
أما نص من التنزيل، أو بيان من النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أو إجماع الأمة على تأويله.
فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات، علمنا أنه مما استاثر اللّه تعالى بعلمه.
قلت: وهذا إنما يصدق بشأن الحروف المقطعة، فإنها رموز بين اللّه ورسوله، لا يعلم تأويلها الا اللّه والرسول، ومن علمه الرسول بالخصوص.
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء، وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول إليه فالمفسر ناقل، والمؤول مستنبط، وذلك استنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم.
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعد، فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه.
ثم أخذ في بيان كيفية الاجتهاد واستنباط الأحكام من ظواهر القرآن، عند اختلاف اللفظ أو تعارض ظاهرين، بحمل الظاهر على الأظهر، وترجيح أحد معنيي المشترك، وما إلى ذلك مما يرجع إلى قواعد (علم الأصول).
ثم قال: فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل، واللّه العالم.
وأخيرًا قال: إذا تقرر ذلك فينزل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" على قسمين من هذه الأربعة: أحدهما: تفسير اللفظ، لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب، الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه، لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم:
علم العربية واللغة والتبحر فيهما.
ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي، والخبر، والمجمل والمبين، والعموم والخصوص، والظاهر والمضمر، والمحكم والمتشابه، والمؤول، والحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والمطلق والمقيد.
ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباط، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول: يحتمل كذا، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به4.


1- تفسير الطبري، ج1، ص 26.
2- محمد: 19.
3- البقرة:43.
4- البرهان في علوم القرآن.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد