قرآنيات

مدارس التفسير


الشيخ محمد هادي معرفة ..

نعم الخلف لخير سلف:
لم يكد ينصرم عهد الصحابة إلا وقد نبغ رجال أكفاء، ليخلفوهم في حمل أمانة اللّه وأداء رسالته في الأرض، وهم التابعون الذين اتبعوهم بإحسان، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، وذلك هو الفوز العظيم.
إنهم رجال لم تمكنهم الاستضاة من أنوار ذلك العهد ﴿عهد الرسالة﴾ الفائض بالخير والبركات، فاستعاضوا عنها بالمثول بين يدي أكابر الصحابة الأعلام، والعكوف على أعتابهم المقدسة، يستفيدون من علومهم ويهتدون بهداهم.
وقد كان أعيان الصحابة كثرة منتشرين في البلاد كنجوم السماء، مصابيح الدجى وأعلام الهدى، أينما حلوا أو ارتحلوا من بقاع الأرض، وبذلك انتشرت تعاليم الإسلام، وشاع وذاع مفاهيم الكتاب والسنة النبوية بين العباد، في مختلف البلاد.


مدارس التفسير
وحيثما ارتحل صحابي جليل وحل به من بلد إسلامي كبير، كان قد شيد فيه مدرسة واسعة الرحب، بعيدة الأرجاء، يبث بها معالم الكتاب والسنة، ويقصدها الرواد من كل صوب وكان أشهر هذه المدارس - حسب شهرة مؤسسيها خمسة:
1- مدرسة مكة: أقامها عبد اللّه بن عباس، يوم ارتحل إليها عام الأربعين من الهجرة، حيث غادر البصرة وقدم الحجاز، بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين (ع)، وكان واليًا من قبل الإمام، فلم يتصد ولاية بعده، عاكفا على أعتاب حرم اللّه، يؤدي رسالته هناك في بث العلوم ونشر المعارف التي تعلمها وأخذها عن الإمام (ع) وقد دامت المدرسة مدة حياته حتى عام ثمانية وستين، حيث وفاته بالطائف، رضوان اللّه عليه.
وقد تخرج من هذه المدرسة أكبر رجالات العلم في العالم الإسلامي حينذاك، وكان لهذه المدرسة ولمن تخرج منها صدى محمود في أرجاء البلاد، وبقيت آثارها الحسنة سنة متبعة بين العباد، ولا تزال ولعل أعلم التابعين بمعاني القرآن هم المتخرجون من مدرسة ابن عباس والمتعلمون على يديه.
قال ابن تيمية: وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة، لأنهم اصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء وعكرمة وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس وأبي الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود ومن ذلك تميزوا به على غيرهم.
2- مدرسة المدينة: قيامها على الصحابة الموجودين بها، ولا سيما أبى بن كعب الأنصاري سيد القراء كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرًا والمشاهد كلها قال له النبى (ع): ليهنك العلم، أبا المنذر.
وكان أول من كتب لرسول اللّه مقدمه المدينة، فإذا لم يحضر أبي كتب زيد ابن ثابت كان اقرأ اصحاب رسول اللّه (ع)، وكان ممن جمع القرآن حفظا على عهد رسول اللّه، وتاليفًا بعد وفاته وكان قد تفرغ للإقراء بالمدينة ما لم يتفرغ له سائر الصحابة الباقين فيها.
ومن ثم تصدى الإملاء على لجنة توحيد المصاحف على عهد عثمان، وكانوا يرجعون إليه عند الاختلاف توفي سنة -30- في خلافة عثمان.
3- مدرسة الكوفة: أقام دعائمها الصحابي الكبير عبد اللّه بن مسعود، كان خصيصاً برسول اللّه (ع) يخدمه ويتربى على يديه قال حذيفة: أقرب الناس برسول اللّه (ع) هديا ودلا وسمتا، ابن مسعود ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد(ع) أن ابن أم عبد من أقربهم إلى اللّه زلفى كان أول من جهر بالقرآن على ملأ من قريش، فأوذي في اللّه واصطبر على البلاء كان قد هاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها.
قدم الكوفة - على عهد ابن الخطاب - معلمًا ومؤدبًا، حتى أحضره عثمان سنة -31- وكانت فيها وفاته ولما بلغ أابا الدرداء نعيه قال: ما ترك بعده مثله.
تربى على يديه خلق كثير، فمن التابعين: علقمة بن قيس النخعي، وأبو وائل شقيق بن سلمة الاسدي الكوفي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم.
وقد عرفت أن مدرسة الكوفة كانت أهم المدارس بعد مدرسة مكة، توسعا وشمولًا لمعاني القرآن والفقه والحديث.
4- مدرسة البصرة: أقامها أبو موسى الأشعري: عبد اللّه بن قيس قدم البصرة سنة -17- واليًا عليها من قبل عمر، بعد أن عزل المغيرة، ثم أقره عثمان، وبعد فترة عزله، فسار إلى الكوفة ولما أن عزل سعيدا استعمله عليها، وعزله الإمام أمير المؤمنين (ع)، فكان يراود معأوية في سر، ولأخوة قديمة كانت بينهما، كما يبدو من وصية معاوية لابنه يزيد بشان أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري  كان منحرفًا عن علي (ع) وافتضح أمره يوم الحكمين.
وهو الذي فقه أهل البصرة وأقرأهم قال ابن حجر: وتخرج على يديه جماعة من التابعين ومن بعدهم وأخرج الحاكم عن أبي رجاء، قال: تعلمنا القرآن عن أبي موسى الأشعري في هذا المسجد - يعني مسجد البصرة - وكنا حلقا حلقا، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين ابيضين.
وكانت مدرسته ذات انحراف شديد، ومن ثم كانت البصرة من بعده أرضا خصبةً لنشوء كثير من البدع والانحرافات الفكرية والعقائدية، ولا سيما في مسائل الأصول والإمامة والعدل.

قال عبد الكريم الشهرستاني: وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري ﴿المتوفى سنة 44﴾ كان يقرر عين ما يقرر حفيده أبو الحسن الأشعري ﴿المتوفى سنة 324﴾ في مذهبه، وذلك قد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه، فقال عمرو: أين أجد أحدًا أحاكم إليه ربي؟ فقال أبو موسى: أنا ذلك المتحاكم إليه فقال عمرو: أو يقدر علي شيئًا ثم يعذبني عليه؟ قال أبو موسى: نعم، قال عمرو: ولم؟ قال:لأنه لا يظلمك.
وذكر ابن أبي الحديد أبا بردة ابن أبي موسى الأشعري فيمن أبغض عليًّا، وكان من القالين له، ثم قال: ورث البغضة له، لا عن كلالة ، أي كان هذا الحقد للإمام أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - قد أتاه مستقيمًا من قبل والده، فكانت البغضة منه تليدًا، ولم تأته من عرض عارض، لا تلد الحية إلا الحية.
5- مدرسة الشام: قام بها أبو الدرداء عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري كان من أفاضل الصحابة وفقهائهم وحكمائهم أسلم يوم بدر، وشهد أحدًا وأبلى فيها بلاء حسنًا روي أن رسول اللّه (ع) قال بشأنه حينذاك: نعم الفارس عويمر، وقال: هو حكيم أمتي.
تولى قضاء دمشق أيام خلافة عمر، وتوفي في خلافة عثمان سنة -32- ولم ينزل دمشق من أكابر الصحابة سوى أبي الدرداء، وبلال بن رباح المؤذن الذي مات في طاعون عمواس سنة -20- ودفن بحلب وكذا واثلة بن الأسقع، وكان آخر من مات بدمشق من أصحاب رسول اللّه (ع) مات سنة -85- في خلافة عبد الملك بن مروان.
تخرج على يدي أبي الدرداء جماعة من أكابر التابعين، منهم: سعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس، وسويد بن غفلة، وجبير بن نفير، وزيد بن وهب، وأبو إدريس الخولاني، وآخرون.
كان أبو الدرداء من الثابتين على ولاء آل الرسول (ع) لم تزعزعه العواصف.
روى الصدوق - في أماليه - بإسناده إلى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة، قال:كنا جلوسًا في حلقة في مسجد رسول اللّه (ع) نتذاكر أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم، ألا أخبركم بأقل القوم مالًا وأكثرهم ورعًا وأشدهم اجتهادًا في العبادة؟ قالوا: من؟ قال: ذاك أمير المؤمنين على بن أبي طالب (ع).
قال عروة: فواللّه، ما نطق أبو الدرداْ بذلك إلا وأعرض عنه بوجهه من في المجلس ثم انتدب له رجل من الأنصار، فقال له: يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها فقال أبو الدرداء: يا قوم، إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا ثم أخذ في بيان مواضع علي (ع) من العبادة والبكاء، عندما كان يختلي بربه في ظلمة الليل والناس نيام

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد