الشيخ حسن المصطفوي
ورد حولَ المعنى اللّغويّ لـ «غفر»: أنه أصلٌ بمعنى السّتر والتغطية. فـ«الغَفْرُ»: السِّتْرُ. والغُفران والغَفْر: بمعنى. يُقال: غَفَر اللهُ ذَنْبَهُ غَفْرَاً ومَغْفِرَةً وغُفْرانًا. هكذا في (مقاييس اللّغة) لابن فارس.
وفي (مصباح اللغة) للفيومي: غَفَرَ غُفراناً: صَفَحَ عنه، والمغفرةُ اسمٌ منه. واسْتَغْفَرتُ اللهَ: سألتُه المغفرةَ. ويُقال: اغتفرتُ للجاني ما صنعَ.
وقيل أيضاً: غَفَرَ اللهُ ذنوبَه: أي سترَها، ولم يَفْضَحْهُ بها على رؤوس المَلَأ. وكلُّ شيءٍ سَترتَه، فقد غفرتَه. وكلُّ ثوبٍ يُغطَّى به شيء: فهو غِفَارَة.
التحقيق
الأصل الواحد في المادّة: هو محوُ الأثر، وتستعمَل في الذنوب والمعاصي، ومفهومُ المحو أعمّ.
وأمّا مفاهيم السّتر والصفح والإصلاح وغيرها: فمن لوازم مَحو الأثر، فإنّه يوجِب ستْرَ الخطأ الواقع، والصفحَ عنه والإصلاح. قال سبحانه وتعالى:
- ﴿..وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التغابن:14.
- ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..﴾ الأحزاب:71.
فإنّ محوَ أثر العصيان والخطأ يُلازم تحقّق الصفح، وقَصْدَ الإصلاح.
وأمّا الستر: فلا يُلازم محو أثر الخطأ والصّفحَ عنه، فإنّ السّتر لا يُوجب محوَ أثره، بل يدلّ على تَثبيته تحت ساتر، ويكون السّتر حينئذٍ قبلَ تحقّق الصفح والإصلاح والعفو، ولا يُلازم توبة الله إليه، وشمول رحمته ولُطفه:
- ﴿..فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا..﴾ الأعراف:155.
- ﴿..رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأعراف:151.
- ﴿..وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ النصر:3.
آثار الغفران
ثمّ إنّ الغفران يعقّب آثاراً على مقتضى مورده:
* فمنها الأجر الكبير: ﴿..وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾فاطر:7، فإنّ آثار المعاصي هي الَّتي تمنع عن ظهور آثار الأعمال الصالحة، فإذا انتفتْ بالمغفرة تظهرُ آثار الحسنات.
* ومنها الرزق الكريم مادّيّاً ومعنويّاً: ﴿فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ الحج:50، هذا أيضاً بسبب تحقّق ما يقتضي توجّه اللطف والفيض، بانتفاء الموانع. وهكذا في قوله تعالى:
- ﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ يس:27.
- ﴿..ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ النساء:137.
- ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا..﴾ هود:3.
فإنّ الغفران يُوجب رفع الموانع، فيتحصّل اقتضاء الإكرام والهداية، وتوبة الله تعالى إليه.
مقدّماته
ثمّ إنّ الغفران له أسباب ومقدّمات، لا بدّ من حصولها حتّى يتحصّل المغفرة من الله المتعال:
* منها التوجّه إلى الذنب وإلى كونه خطأً وخلافاً، والنّدمُ عليه بالقلب، كما في قوله تعالى:
- ﴿..رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ..﴾ القصص:16.
- ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا..﴾ آل عمران:135.
* ومنها: تحصّل حالة الطاعة والاتّباع الكامل. كما في قوله تعالى:
- ﴿..فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..﴾ آل عمران:31.
- ﴿..فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ..﴾ غافر:7.
* ومنها: حصولُ الإيمان القاطع بالله العزيز، فإنّه يَمحو ما سلفَ من الخطأ والذّنب في حقوق الله المتعال، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا..﴾ طه:73.
* ومنها: رفع حوائج المضطرّين من عباده، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ..﴾ التغابن:17.
* ومنها: التوسّل إلى أولياء الله والزلفى لديهم لكي يستغفروا له، كما في قوله تعالى: ﴿..فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ النساء:64.
وهكذا كلّ ما يوجب رفع الخلاف وحصول الوفاق والتسليم، وما دام لم تتحصّل هذه الحالة النورانيّة الخالصة: لا يمكن حصول الغفران.
موانع الغفران
ويقابل هذه الأمور المُوجِبة للغفران ما ينفيه، وهو ما يكون له أثر باقٍ في الدين أو في المجتمع، من بدعة مخترَعة، أو إضلالٍ عن الحقّ، أو ظلمٍ فاحش منبسِط، أو قولٍ فاسدٍ مُهينٍ في الله المتعال:
1) الشرك: لقوله تعالى:
- ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ النساء:116.
- ﴿..لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان:13.
فالشِّركُ ظلمٌ في مقام عظَمة الله تعالى وجلاله، وليس فوقه ظلم. مضافاً إلى أنّه يُخرج الإنسان عن مقام التوحيد، وهو أصلُ الدين، وأساسُ المعرفة، ولُبُّ الحقّ والنور. فما دام هذا الانحراف في النّفس، كيف يُتصوّر له الصلاح والفلاح، وليس في وجوده اقتضاءُ أن يغفَر (له) من جانب مَن لا يوحّده.
والشّرك كفرٌ في الجملة، والكافر لا ربطَ بينه وبين الله تعالى حتّى يتوقّع المغفرة، فهو لا يعرفه ولا يعتقد بوجوده: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ..﴾ نوح:7.
2) الكفرُ بالله تعالى: فلا اقتضاء في هذا المورد للغفران بوجه، حيث إنّ الكافر لا يقول بوجوده تعالى ولا يعتقد به، بل ينكره ويُخالفه. فيكون الغفران له موافقةً ورضىً عنه وعن كُفره.
نعم، يُمكن في الكفر والشّرك ونظائرهما وقوع المغفرة بالنسبة إلى سائر الأعمال والخطيئات من باب اللّطف والرحمة والجود العامّ، أو في مقابل سائر الأعمال المستحسنة. وإلى هذا المعنى يشير بقوله تعالى:
- ﴿..وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ..﴾ النساء:48.
- ﴿..إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ..﴾ التوبة:80.
- ﴿..ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ النساء:137.
وهذا المعنى شاملٌ لما بعد الموت أيضاً، فانّ الكافر منقطعٌ في نفسه عن الله، ومحجوبٌ عن فَيضه ورحمته، وعدوٌّ لله ولرسوله، فلا اقتضاءَ فيه في طول حياته في الدنيا وفي الآخرة للغفران: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ محمّد:34.
3) الافتراء على الله والابتداع في دينه عزّ وجلّ: وهذا أيضاً يعود إلى الكفر والشّرك، فإنّ جَعْلَ الأحكام وتشريع الدين إنّما هو من الله تعالى، وليس لأحدٍ أن يُبدع بدعةً في دينه، والدين برنامج السير إلى الله المتعال. فالمُبتدع هو الّذي يجعل نفسه شريكاً في التشريع في قبال الربّ المتعال، ويفتري في دين الله، وهو الظالم في أمر الله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ..﴾ الأنعام:93.
مضافاً إلى أنّه يُضِلُّ عبادَ الله ويُزيغ السالكين إليه عن صراطه الحقّ، ويصدُّهم عن السير: ﴿..فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ..﴾ الأنعام:144.
4) الظّلم وتضييع حقوق النّاس، ما دامَ لم يُصلح: والإصلاح إمّا بفدية من أمواله أو أعماله الحسنة لذوي الحقوق، أو بترضية الله تعالى بالإحسان عليهم حتّى يرضوا ويعفوا عمّن ظلمهم. وهذا الإصلاح لازمٌ فيه وفي نظائره أيضاً من التضييع، والبدعة، والإضلال، وغيرها: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ المائدة:39.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان