قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

مصاحبة الهماز ومشاورته (2)

 

الشيخ محمد صنقور

النقد البناء

ثم إنَّ الروايات الورادة عن أهل البيت (عليهم السلام) تصدَّت لبيان الآثار السيئة المترتبة على الوقوع في أعراض الناس وتعييبهم وتصدَّت كذلك لمعالجة هذه السجيَّة المذمومة، تصوروا أيها الأخوة لو شاعت في أوساط المجتمع مثل هذه السجية فإن الأثر السيء هو النقض للبناء الاجتماعي، إنَّ هذه السجيَّة لو شاعت فإنَّها تُحدث اختلالاً في البناء الاجتماعي يُفضي إلى تمزُّق نسيج العلاقات بين أفراد المجتمع.
والمؤسف أنَّنا نجد شيوع حالة التراشق وانتقاص الناس لبعضهم البعض، وقد ساهم في ذلك ما يُروِّج له بعض المنظِّرين تحت شعار النقد البنَّاء والشفافية، فالانتقاص والتراشق قد صِيغ بصياغات يقبلها الناس ويستمرؤنها لتوهُّمهم أنَّها لا تدخل تحت هذا العنوان السيء، فشعار النقد البنَّاء، عنوان جميل وبرَّاق ولكنَّه يُجيَّر غالباً لسلوكٍ منافٍ لمدلوله الحقيقي، فالنقد البناء يعني المعالجة للأخطاء التي ينشأ عنها -أي عن معالجتها- بناء المجتمع، فهو بنَّاء يوطِّد العلائق ويشدُّ ما تراخى منها ويسدُّ الثغرات التي تطرأ في بنيتها، وأما النقد الذي يتعاطاه الناس فهو يتم بأسلوبٍ آخر ولغاية لا تمتُّ للبناء بصلة، ولكن الشعار هو النقد البنَّاء يقعون في أعراض بعضهم البعض طولاً وعرضاً وكل يتتبع عثرات غيره وسقطاته ولا يبقي من أخطاء غيره إلا وأفشاها وبالغ في التشنيع عليها، وكل ذلك تحت شعار النقد البناء، فهو يضع من لا يرتضيه على المقصلة فيأخذ في تعداد صفاته السيئة وربما اختلق له صفات ليست فيه ويحصي عليه كل قول مسيء أو خطأ اجترحه وإن كان ذلك قد وقع منه قبل سنين فإذا قيل له: إنَّ ذلك من الغيبة والاستنقاص والإساءة للآخرين قال: كلا، هذا نقد بنَّاء، تحت شعار النقد البناء نطعن في أعراض الناس ونعيبهم ونستنقصهم ونستصغرهم ونتتبع عثراتهم، وتحت هذا الشعار يصبح التتبع للعثرات دراسة وتحليل للشخصيات الفاعلة في المجتمع، ذلك هو الوهم الحالق للدين يُقنع هذا الطعان في أعراض الناس نفسه أنه بنقده اللاذع والفج يساهم في تقويم البناء الاجتماعي فيعطي لنفسه الحق في متابعة أخطاء الآخرين، تحت ذريعة العمل على معالجتها، هذه وسوسة شيطان، وتلك هي إملاءاته، فليس من دين الله تعالى ولا هو من شأن العقلاء الأسوياء أن يتتبع الإنسان أقوال أخيه ويُحصي عليه تصرفاته وكل مواقفه ثم يجزِّأها ويُحلّلها ويضعها على المشرحة ثم ينتقي منها ما يُوجب استنقاصه فيفشيه بين الناس، كل ذلك تحت شعار النقد البناء، إنَّ مثل هذا السلوك المشين حذَّر منه أهل البيت (عليهم السلام) ورد عن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: "أبعد ما يكون العبد من الله -والعبد يحرص أن يكون أقرب ما يكون من الله في حين أنه إذا اتصف بهذه الصفة التي سيذكرها الإمام يكون أبعد ما يكون عن الله عزوجل - أن يكون الرجل يواخي الرجل وهو يحفظ عليه زلاته ليعيِّره بها يوما ما"(11)، ذاكرته قوية يحفظ مواقف الآخرين ويحفظ أقوالهم وقد يحفظها عنده في سجلاته، بمجرد أن يحتاجها في يوم من الأيام من أجل أن يكشف نقائص هذا الرجل تكون عنده جاهزة مؤرخة موثقة، هذا من أبعد الناس عن الله عزوجل، الناس تصدر منهم في كل يوم زلات والأخطاء، أنت إذا تتبعتها سوف تجد الكثير من هذه الأخطاء، من تأمل عيباً وجده، أنت إذا تأملت في الآخرين بتجد ليهم عيوب، لكن هذا الأمر حسن يعني، هذا سيء، كل تأملك وتدبرك وتحليلك والتحليلات والدراسات كلها تتم على أساس الوقوف على أخطاء وعثرات الآخرين، هذا من أسوأ الصفات التي يتصف بها بعض الناس.

التحذير من هذه السجية الممقوتة:
قلنا إنَّ الروايات حذَّرت من الطعن في أعراض الناس والتنويه بمعائبهم فمن الروايات التي أكدت على سوأة هذه الصفة ما ورد عن النبي الكريم (ص) أنه قال: "كان بالمدينة أقوامٌ لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فأسكت اللهُ عن عيوبهم الناس فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس، وكان بالمدنية أقوامٌ لا عيوبَ لهم فتكلَّموا في عيوب الناس فأظهر اللهُ لهم عيوباً لم يزالوا يُعرفون بها إلى أن ماتوا"(12)، فجزاء تتبعهم لعيوب الناس، إنَّ الله عزوجل خذلهم فأوكلهم إلى أنفسهم فأدَّى خذلانه لهم إلى أن يبحث بعض الناس عن عيوبهم فحين وقفوا عليها أفشوها فشاعت بين الناس حتى صاروا يُعرفون بها ولعلها لحقت بذراريهم أيضاً، وأما الآخرون الذين كانت لهم عيوب ولكنهم تعفَّفوا عن ذكر عيوب الناس فهؤلاء منحهم الله عزوجل ستره الجميل فلم يطلع الناسُ معايبهم، هذا أثر حسن يترتب على الستر على عيوب الناس وأثر سيء يترتب على إفشاء عيوب الناس.

وورد عن الرسول الكريم (ص) في مقام الحض والحثِّ على ستر عيوب الناس في مقابل إفشائها، قال(ص): "من ستر على مؤمن فاحشة -ارتكبها - فكأنَّما أحيا موؤودة"(13)، لاحظوا، كم هو مقدار الأجر المترتِّب عن إحياء نفسٍ مشرفةٍ على الهلاك؟ لا ريب أنَّه عظيم أن تنتشل طفلةً كانت في أيام الجاهلية قد دفنت في الأرض وهي حية فتستنقذها من هذا الموت المحتم، إنَّ مَن ستر على مؤمن فاحشة قد اجترحها فكأنما أحيا موؤودة واستنقذها من الموت، وفي الآية: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾(14)، وهذا المضمون قد تكرر وروده عن النبي الكريم (ص) قال: "من ستر على مؤمن خزيه -عيب- فكأنَّما أحيا موؤودة من قبرها"(15)، وقال (ص): "من أطفأ عن مؤمن سيئة -أطفأ يعني أنَّها تكون تحت الضوء ومكشوفة، فيجرها إلى الظلام إما بتبريرها أو التكتم عليها- منحه الله عزَّوجل أجر من أحيا موؤودة"(16)، وورد عنه (ص) في مورد آخر أنه قال: "مَن ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة"(17)، و"من ستر أخاه في فاحشة رآها عليه ستره الله في الدنيا والآخرة"(18)، ليس من أحد عاقل إلا وهو حريص على أن يستر الله تعالى عليه عيوبه، وما من أحد إلا وله عيوب وفيه نقائص ويحبُّ أن لا تظهر للناس فإذا شاء أن يستر الله عليه وأنْ لا تظهر معائبه للناس فليستر على الآخرين.
وفي مقابل ذلك من أفشى عيوب الناس، فإنَّ الله تعالى يخذله، فإذا خذله انكشفت معايبه عند الناس، فلذلك ورد عن الإمام الصادق (ع) عن الرسول الكريم (ص): "من سلَّ سيف البغي قُتل به، ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه انتهكت عورات بيته"(19) هذا أثر سيء يترتب على تتبع عثرات الناس.
ـــــــــــــــــــ
11-الكافي (مُشَكَّل) -الشيخ الكليني- ج 2 ص 355.
12-وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 15 ص 292.
13- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 249.
14- سورة المائدة/32.
15- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 249.
16-"من أطفأ عن مؤمن سيئة كان خيرا ممن أحيا موؤودة". كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 248.
17- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 248.
18- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 250.
19- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 72 ص 321.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد