السيّد محمد باقر الصدر
اختيار الإنسان وإرادته
الحقيقة الثّالثة:
الحقيقة الثالثة التي أكد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص المتقدمة، هي حقيقة اختيار الإنسان وإرادة الإنسان، والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جداً...
إن البحث في سنن التاريخ خلق وهماً، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكّرين، أنّ هناك تعارضاً وتناقضاً بين حرية الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ. فإما أن نقول بأن للتاريخ سننه وقوانينه، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وحريته، وإما أن نسلم بأن الإنسان كائن حر مريد مختار، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه، ونقول بأن هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعف منها بقية الساحات الكونية. هذا الوهم؛ وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون التاريخي، وبين فكرة اختيار الإنسان وحريته. هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم أن يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات.
ومن هنا، أكد سبحانه وتعالى على أنّ المحور في تسلسل الأعداد والقضايا إنما هو إرادة الإنسان، وسوف أتناول، إن شاء الله تعالى، بعد محاضرتين، الطريقة الفنية في كيفية التوجيه بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الأمرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في إطارها صياغة السنة التاريخية، سوف أتكلم عن ذلك بعد محاضرتين، لكن يكفي الآن أن نستمع إلى قوله تعالى: {إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}، {وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} {...وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا أنفسهم وجعلنا لمهلكهم موعداً}.
انظروا كيف أنّ السنن التاريخيّة لا تجري من فوق يد الإنسان، بل تجري من تحت يده، فإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم {وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً}.
إذاً هناك مواقف إيجابية للإنسان تمثل حريته واختياره وتصميمه، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية، تستتبع جزاءاتها المناسبة، تستتبع معلولاتها المناسبة. إذاً فاختيار الإنسان له موضعه الرئيسي في التصور القرآني لسنن التاريخ. وسوف أعود إلى هذه النقطة مرة أخرى بإذن الله تعالى.
إذاً نستخلص مما سبق، أن السنن التاريخية، أن السنن القرآنية في التاريخ، ذات طابع علميّ، لأنها تتميز بالاطراد الذي يميّز القانوني العلمي، وذات طابع رباني، لأنها تمثّل حكمة الله وحسن تدبيره على الساحة التاريخيّة، وذات طابع إنساني، لأنها لا تفصل الإنسان عن دوره الايجابي، ولا تعطل فيه إرادته وحريته واختياره، وإنما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية.
ميدان السنن
الآن، بعد أن استعرضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم، نواجه هذا السؤال: ما هو ميدان هذه السنن التاريخية؟
كنا حتى الآن نعبّر ونقول بأن هذه السنن تجري على الساحة التاريخية، لكن، هل إن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان لسنن التاريخية، أو أن ميدان السنن التاريخية يمثّل جزءًا من الساحة التاريخية؟ بمعنى أن الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعيّ، مختلف عن القوانين الأخرى الفيزيائية والفسلجية والبيولوجية والفلكية. هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية؟ هل يستوعب كل الساحة التاريخية، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخيّة؟ لكن قبل هذا، يجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخيّة؟
الساحة التاريخية عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتمّ بها المؤرّخون، المؤرّخون أصحاب التواريخ بمجموعة من الحوادث والقضايا يسجلونها في كتبهم، والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرخون ويسجّلونها، هي الساحة التاريخية. فالسؤال هنا إذاً هكذا: هل إن كل هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرخون، وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية، هل كلها محكومة بالسنن التاريخية، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميّز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة، أو أنّ جزءاً معيّناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ؟
الصحيح أن جزءاً معيناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ، هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية أو قوانين الحياة أو أي قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونية الأخرى. مثلاً: موت أبي طالب، موت خديجة في سنة معيّنة، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين، وأكثر من هذا، هي حادثة ذات بعد في التاريخ، ترتبت عليها آثار كثيرة، ولكنها لا تحكمها سنة تاريخية، بل تحكمها قوانين فسلجية، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت أبو طالب (صلوات الله عليه)، وأن تموت خديجة(ع) في ذلك الوقت المحدد، هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرخين، ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة، هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معيّنة وظروف معينة، حياة عثمان بن عفان الخليفة الثالث، طول عمره حادثة تاريخية، فقد ناهز الثمانين. طبعاً هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الإسلام، لو قدّر لهذا الخليفة أن يموت موتاً طبيعياً وفقاً لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة، كان من الممكن أن تتغير كثير من معالم التاريخ، كان من المحتمل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين إلى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف، لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت أن يمتد به العمر ألى أن يقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين. هذه حادثة تاريخية، تعني أنها تدخل في اهتمامات المؤرخين، ولها بعد تاريخي أيضاً، ولعبت دوراً سلباً أو إيجاباً في تكييف الأحداث التاريخية الأخرى، ولكنها لا تتحكم فيها سنن التاريخ.
إن الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان، قوانين الحياة وقوانين جسم الإنسان التي أعطت لعثمان بن عفان عمراً ناهز الثمانين، مواقف عثمان بن عفان وتصرفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ، لكن طول عمر عثمان بن عفان لمسألة أخرى، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية، وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ.
إذاً سنن التاريخ لا تتحكم على كل الساحة التاريخية، لا تتحكم على كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه، بل على ميدان معيّن من هذه الساحات يأتي ذكره إن شاء الله.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة