السيد محمد باقر الحكيم
أ. جواز النسخ عقلاً:
المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم جواز النسخ عقلاً وقد خالف في هذا الرأي بعض اليهود والنصارى. وذلك في محاولة للطعن في الإسلام والتمسك ببقاء الديانتين اليهودية والمسيحية واستمرارهما. وقد استندوا في هذا الموقف إلى بعض الشبهات التي حاولوا صياغتها بأساليب مختلفة كما قام بعضهم بمحاولة تعضيد ذلك ببعض النصوص الواردة المتداولة اليوم. وسوف نعرض الصياغة الرئيسية للشبهة في هذا الموضوع مع الإجابة عليها بالشكل الذي يتضح به الموقف تجاه الصياغات الأخرى لها.
وخلاصة هذه الشبهة أن النسخ يستلزم أحد أمرين باطلين. البداء أو العبث لأن النسخ إما أن يكون بسبب حكمة ظهرت للناسخ بعد أن كانت خفية لديه أو أن يكون لغير مصلحة وحكمة. وكلا هذين الأمرين باطل بالنسبة إلى اللّه سبحانه ذلك أن تشريع الحكم من الحكيم المطلق وهو اللّه سبحانه لا بد وأن يكون بسبب مصلحة يستهدفها ذلك الحكم فتقتضي تشريعه حيث أن تشريع الحكم بشكل جزافي يتنافى وحكمة الشارع وحينئذ فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه بسبب المصلحة إما أن يكون مع بقاء حاله على ما هو عليه من وجه المصلحة. وعلم ناسخه بها. وهذا ينافي حكمه الجاعل وهو العبث نفسه. وإما أن يكون من جهة البداء وجهله بواقع المصلحة والحكمة وانكشاف الخلاف لديه على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين الوضعية. وعلى كلا الفرضين يكون وقوع النسخ في الشريعة محالاً لأنه يستلزم المحال. أما البداء أو العبث وهما محال على اللّه لأنهما نقص لا يتصف بهما. ومن أجل أن يتضح الجواب عن هذه الشبهة نقسم الحكم المجعول من قبل الشارع إلى قسمين رئيسيين:
الأول: الحكم المجعول الذي لا يكون وراءه بعث وزجر حقيقيّان كالأوامر والنواهي التي تجعل ويقصد بها الامتحان ودرجة الاستجابة. وهذا ما نسميه بالحكم الامتحاني.
الثاني: الحكم المجعول الذي يكون بداع حقيقي من البعث والزجر حيث يقصد منه تحقيق متعلقة بحسب الخارج. وهذا ما نسميه بالحكم الحقيقي.
ونجد من السهل الالتزام بالنسخ في القسم الأول من الحكم إذ لا مانع من رفع هذا الحكم بعد إثباته بعد أن كانت الحكمة في نفس إثباته ورفعه لأن دوره ينتهي بالامتحان نفسه فيرتفع حين ينتهي الامتحان ولحصول فائدته وغرضه. والنسخ في هذا النوع من الحكم لا يلزم منه العبث ولا ينشأ منه البداء الذي يستحيل في حقه تعالى.
وأما القسم الثاني من المحكم فإننا يمكن أن نلتزم بالنسخ فيه دون أن يستلزم ذلك شيئًا من البداء أو العبث حيث يمكن أن نضيف فرضًا ثالثًا إلى الفرضين اللذين ذكرتهما الشبهة.
وهذا الفرض هو أن يكون النسخ لحكمة كانت معلومة للّه سبحانه من أول الأمر ولم تكن خافية عليه وإن كانت مجهولة عند الناس غير معلومة لديهم فلا يكون هناك بداء لأنه ليس في النسخ من جديد على اللّه لعلمه سبحانه بالحكمة مسبقًا كما أنه لا يكون عينًا لوجود الحكمة في متعلق الحكم الناسخ وزوالها في متعلق الحكم المنسوخ وليس هناك ما يشكل عقبة في طريق تعقل النسخ هذا... إلا الوهم الذي يأبى تصور ارتباط مصلحة الحكم بزمان معين بحيث تنتهي عنده. وإلا الوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعين عن الناس جهلاً من اللّه بذلك الزمان.
وهذا الوهم يزول حين نلاحظ بعض النظائر الاجتماعية التي نرى فيها شيئًا اعتياديًا ليس فيه من المحال أثر ولا من العبث والبداء.
فالطبيب حين يعالج مريضًا ويرى أن مرحلة من مراحل المرض التي يجتازها المريض يصلح لها دواء معين فيصف له هذا الدواء لمدة معينة ثم يستبدله بدواء آخر يصلح لمرحلة أخرى.. لا يوصف عمله بالعبث والجهل. مع أنه قام بوضع أحكام معينة لهذا المريض في زمان محدود ثم رفعها عنه بعد مدة من الزمن. وحين وضع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضيه كما أنه حين رفع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضي هذا الرفع وهو في كل من الحالين كان يعلم المدة التي يستمر بها الحكم والحكمة التي تقتضي رفعه. ونظير هذا يمكن أن نتصوره في النسخ فإن اللّه سبحانه حين وضع الحكم المنسوخ وضعه من أجل مصلحة تقتضيه وهو سبحانه يعلم الزمان الذي سوف ينتهي فيه الحكم وتتحقق المصلحة التي من أجلها شرع. كما أنه حين يستبدل الحكم المنسوخ بالحكم الناسخ استبدله من أجل مصلحة معينة تقتضيه فكل من وضع الحكم ورفعه كان من أجل حكمة هي معلومة عند جعل الحكم المنسوخ.
فليس هناك جهل وبداء كما أنه ليس هناك عبث لتوفر عنصر العلم والحكمة في الجعل والرفع نعم هناك جهل الناس بواقع جعل الحكم المنسوخ حيث كان يبدو استمرار الحكم نتيجة للإطلاق في البيان الذي وضع الحكم فيه ولكن النسخ إنما يكون كشفًا عن هذا الواقع الذي كان معلومًا للّه سبحانه من أول الأمر.
ب. وقوعه خارجًا:
وإلى جانب ما ذكرناه من تصوير النسخ بالشكل الذي لا يستلزم البداء أو العبث منه سبحانه وتعالى يمكن أن نضيف شيئًا آخر في إحباط شبهة القائلين باستحالة النسخ من اليهود والنصارى وغيرهم وذلك بملاحظة الموارد التي تحقق فيها النسخ سواء في الشريعة الموسوية أو الشريعة المسيحية أو الشريعة الإسلامية. حيث جاءت نصوص في التوراة والإنجيل وفي الشريعة الإسلامية تتضمن النسخ ورفع ما هو ثابت في نفس الشريعة أو في غيرها من الشرائع السابقة.
أ. تحريم اليهود العمل الدنيوي في يوم السبت مع الاعتراف بأن هذا الحكم لم يكن ثابتًا في الشرائع السابقة وإنما كان يجوز العمل في يوم السبت كغيره من أيام الأسبوع(1).
ب. أمر اللّه سبحانه بني إسرائيل قتل أنفسهم بعد عبادتهم للعجل ثم رفعه لهذا الحكم عنهم بعد ذلك(2).
ج. الأمر ببدء الخدمة في خيمة الاجتماع في سن الثلاثين ثم رفع هذا الحكم وإبداله بسن خمسة وعشرين سنة ثم رفعه بعد ذلك وإبداله بسنِّ العشرين(3).
د. النهي عن الحلف باللّه في الشريعة المسيحية مع ثبوته في الشريعة الموسوية والإلزام بما التزم به في النذر أو اليمين(4).
هـ. الأمر بالقصاص في الشريعة الموسوية. ثم نسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحية ونهى عن القصاص.
و. تحليل الطلاق في الشريعة الموسوية. ونسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحية.
ــــــــــ
1- انظر سفر الخروج 16/ 25 - 26و20/ 8 - 12 و23/12 و31/ 16 - 7 و35/ 1 - 3 وسفر اللاويين 23/ 1 - 3 وسفر التثنية 5/ 12-15.
2- سفر الخروج 32/ 21 - 29.
3- سفر العدد 4/ 2 - 3 و8/ 23 - 24 وسفر أخبار الايام الاول 23/ 24 و32.
4- سفر العدد 30/2. انجيل متى 5/ 33 - 34.
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة