الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
إنّ وجود القوانين الدولية لا يمثل سوى حبرٍ على ورق، وغاية ما تقوم به من تأثير ذاتي أنّها تنقل النصيحة والموعظة لكن بدون الاستناد إلى أي دليل، وبعبارة أخرى فإنّ القوانين بحد ذاتها لا تنطوي إلّا على بعد ذهني وفكري، وحتى تكتسب قيمة اجتماعية تحتاج إلى أن تستند إلى قاعدة معينة تلزم أفراد المجتمع باتباعها والانصياع لها، وهذه القاعدة هي التي يطلقون عليها عنوان «الضامن التنفيذي» أو «الضمانة التنفيذية».
يتضح جيداً من هذه المقدّمة أنّ قيمة القانون وصلاحيته متوقفة على مدى قوّة الضمانات لتنفيذ هذه القوانين وقدرتها، فمتى ما كانت الضمانة الإجرائية لأحد القوانين أقوى وأدق كانت قيمتُهُ الاجتماعية أعلى وأكثر.
إنّ الكثير من الضمانات التنفيذية للقوانين تنطوي على آثار سيئة للغاية، وتخلق مشاكل ومساوئ على صعيد المجتمع؛ وتؤدّي أحياناً إلى الاصطدام وانعدام الثقة، وسوء الظن بين الأفراد، أو أنّها تعكس القانون بشكل صارم ورهيب وهذه بحد ذاتها تعتبر خسارة كبرى.
ولو كانت الضمانة التنفيذية تستند إلى مجموعة من المباني الثقافية والأخلاقية والعاطفية، لما اشتملت على أيٍّ من هذه المساوئ.
إنّ العالم المعاصر ومن أجل تطبيق القوانين الوضعية يمر في دوامة قاتلة.
وهذه الدوامة ناشئة من عدم وجود ما يضمن تنفيذ هذه القوانين سوى العقوبات المادية والتي تشمل العقوبات الجسدية أو الغرامات المادية، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى عدم سن القوانين التي تقضي بمعاقبة المجرمين بالإعدام عند ارتكابهم للجرائم والجنايات الفجيعة والتي يستحق فاعلها ذلك.
إنّ عدم وجود الوازع النفسي والوجداني الذي يضمن تنفيذ القوانين الوضعية، وكذلك ضعف الضمانات التنفيذية الخارجيه، أدّى إلى حصول الكثير من المخالفات القانونية وقد ترتب على ذلك ابتعاد الناس عن الضوابط والمقررات وتجذر حالة عدم المبالاة يوماً بعد يوم، والدليل على ذلك هو كثرة المؤسسات القضائية والسجون في العالم.
وهذا الوضع هو الذي يمكن أن يطلق عليه عنوان «أزمة الضمانة التنفيذية»، وله نتائج وعواقب غير محمودة، الأمر الذي جعل المجتمعات الإنسانية بأسرها تدفع ضرائب ثقيلة، ويمكن الوقوف على شواهد من هذا القبيل في أرقى الدول الصناعية في العالم.
ومن العقبات الأخرى للضمانات التنفيذية في القوانين الدولية المعاصرة، هو الاقتصار على الأحكام الجزائية وفقدان الجانب الإيجابي في الجزاء أي الاتكاء على العقوبة وترك المكافأة.
إنّ الإنسان يتمتع بقوتين «القوة الجاذبة والدافعة» أو بعبارة أخرى: الميل للحصول على المنافع ودفع المضار، ولابدّ من الاستعانة بكلا الجانبين في إجراء القوانين، في حين أنّ عالم اليوم يحصر جلّ اهتمامه على دفع المضار وفي دائرة محدودة أيضاً، والدليل على ذلك واضح، لأنّ العالم المادي ليس في جعبته شيء ليجعله بعنوان مكافأة تقديرية إزاء كل من يعمل ببنود القانون.
وعلى ضوء هذه المقدّمات نعود إلى مسألة «الضمانة التنفيذية للقوانين القرآنية» لنرى اشتماله على أقوى الضمانات التنفيذية وأجمعها، وهذا الامتياز ينفرد به دون غيره.
وقد أُخذت بعين الاعتبار ثلاثة أنواع من الضمانات التنفيذية في القرآن:
1- الضمانة التنفيذية المستمدة من الدولة الإسلامية.
2- الضمانة التنفيذية المستندة إلى الرقابة العامة.
3- الضمانة الذاتية الداخلية أو بتعبير آخر، الضمانة الناشئة من الإيمان والاعتقاد بمبادئ الإسلام والقيم الأخلاقية والعاطفية.
ففي المورد الأول تقع على عاتق الدولة الإسلامية مسؤولية الوقوف بصورة جدّية بوجه أي شكل من أشكال المخالفة القانونية، فالخطوة الأولى التي أقدم عليها نبي الإسلام صلى الله عليه وآله بعد هجرته إلى المدينة، وبعد التغلب على المشاكل العالقة، هي إرساء دعائم الدولة الإسلامية، وبيان معالم القوانين الإسلامية، وملاحقة أي نوع من أنواع الانحراف والشذوذ باعتباره من الذنوب التي تدخل في دائرة (العقوبة الجزائية).
لقد اعتبر الإسلام القوانين القرآنية حدوداً إلهيّة، ووجه العقوبة إلى كل من يتجاوز هذه الحدود.
فمن جهة يُعرِّف المتخلفين بأنّهم ظالمون يقول تعالى: {وَمَن يَتَعدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الَّظَالِمُونَ} (البقرة/ 229) .
ومن جهة أخرى يؤكد على محاربة الظالمين.
فحينما يذهب القرآن إلى القول: {لَقَدْ أرْسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنْصُرهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (الحديد/ 25) .
فإنّ معناه: إن شَخْصَ نبي الإسلام صلى الله عليه وآله الذي هو خاتم الأنبياء وسيدهم هو الذي تقع على كاهله هذه المسؤولية قبل أي شخص آخر.
هذا من جانب، ومن جانب آخر يدعو كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية إلى المراقبة في إجراء القوانين الإلهيّة، ووفقاً لمبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، يلزم الجميع بأن لا يتهاونوا ويتخاذلوا في الوقوف بوجه الانحراف عن القوانين الربانية.
لذا يقول سبحانه في أحد المواضع: {وَالمُؤمِنُونَ وَالمؤمِنَاتُ بَعضُهُم أولِيَاءُ بَعضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. (التوبة/ 71)
وتتجلّى الأهميّة القصوى لهاتين الوظيفتين في الآية الكريمة من خلال تقديم ذكرهما على الصلاة والزكاة وإطاعة اللَّه والرسول، والسر في ذلك يقع في أنّ أركان الصلاة والزكاة والطاعة لا تستقيم أعمدتها من دون هذه الرقابة العامة على إجراء القوانين.
وفي موضع آخر حينما يعمد تعالى إلى طرح الصفات المختصة بالمجاهدين في سبيل اللَّه أولئك الذين اشتروا الجنّة من اللَّه تعالى بأموالهم وأنفسهم، يقول بعد بيان ست صفات من الصفات المتعلقة بهؤلاء المجاهدين:{الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}. (التوبة/ 112)
وممّا يلفت النظر: إنّه نظراً إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراحل مختلفة تبدأ من النصيحة والإرشاد والمواعظ الأخوية، وتشق طريقها حتى تصل إلى مرحلة التشدد والحزم العملي، بناءً على ذلك فقد قسمها القرآن إلى قسمين، جعل القسم الأول في متناول الجميع، أمّا القسم الثاني فقد جعله في متناول جماعة خاصة تمارس أعمالها تحت إشراف الحكومة الإلهيّة، ولذا يشير إلى هذا التقسيم بقوله تعالى: {وَلتَكُن مِّنكُم أمَّةٌ يَدعُونَ إلَى الخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهوَنَ عَنِ المُنكَرِ وأولَئِكَ هُمُ المُفلِحوُنَ} (آل عمران/ 104) .
ومن البديهي أنّ الأمّة التي تأخذ على عاتقها مسؤولية الرقابة، على إجراء القوانين ويشاطرها في هذا الشعور بالمسؤولية كافة أفراد المجتمع، سيكون القانون في أوساطها معززاً مكرماً وصالحاً للتطبيق في الوقت المناسب.
وحينما نخرج من دائرة الرقابة العامة يأتي الكلام عن الرقابة الذاتية، والروحية والاعتقادية والوجدانية للأفراد على حسن إجراء القوانين وهكذا رقابة تعتبر بحقّ أفضل أنواع الرقابات وذلك لوجود الرادع الذاتي للفرد.
أمّا «الإيمان بالمبدأ» أي بالله عزّ وجلّ الذي هو حاضر في كل حين وهو أقرب إلى العباد من أنفسهم:{وَنَحنُ أقرَبُ إلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ}. (ق/ 16)
وسبحان الذي:{يَعلَمُ خَائِنَةَ الأعُينِ وَمَا تُخفِى الصُّدُوُر}. (غافر/ 19)
واللَّه الذي جعل الأرض والزمان وحتى أعضاء بدن الإنسان رقيباً عليه وشاهداً وشهيداً على أفعاله (1).
و«الإيمان بمحكمة القيامة الكبرى» بحيث لو كان في صحيفة أعمال الإنسان مقدار ذرة من عمل الخير أو الشر لأحضروها أمامه، ويلاقي حسابه وجزاؤه:{فَمَن يَعملْ مِثَقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَن يَعملْ مِثَقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة/ 7- 8) .
وليست الأمثلة السابقة هي التي تعكس آثار الإيمان بالمبدأ والمعاد فحسب، بل لدينا مئات الأمثلة من هذه الآيات في القرآن الكريم يعدّ الاعتقاد بها من أفضل الضمانات لتنفيذ القوانين الإلهيّة.
إنّ الضمانة التنفيذية لا أثر لوجودها في العالم المادي إطلاقاً، ولهذا السبب لم تتمكن الضمانات التنفيذية الأخرى بأي شكل من الأشكال أن تقف حاجزاً أمام المخالفات الأخرى، في حين تنحسر هذه المخالفات القانونية في ظل الأجواء الدينية الواقعية التي يكون هذا الضامن التنفيذي فيها فعالًا، كما تحقق ذلك في زمن حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ففي ذلك الزمان لم يكن لوجود السجون معنى على الإطلاق، وقلّما كانت تعقد المحاكم القضائية، فقد كانت شكاوى الناس تتلخص بمجيء بعض الأشخاص أحياناً إلى محضر النبي صلى الله عليه وآله في المسجد ويطرحون دعاواهم، فيستمعون إلى الأجوبة في المكان نفسه ويخرجون راضين بالحلول العادلة.
__________________
(1) الزلزلة ، 4؛ ويس ، 65؛ والنور ، 24.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة