قرآنيات

هل أخطأ نبيّ الله داود (ع) حتى يتوب؟

 

الشيخ محمد جواد مغنية
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}[ص: 21، 22].
يقصّ سبحانه على نبيّه الكريم حادثة وقعت لداود، وهي أنه كان في ذات يوم منقطعاً إلى ربّه في مصلاه، فإذا باثنين أمامه وجهاً لوجه، فراعته هذه المفاجأة في غير أوانها، وفوق ذلك، دخولهما من أعلى الحائط، لا من المدخل المعتاد .
وتجدر الإشارة إلى أنّ دخولهما كذلك على داود لا دلالة فيه من قريب أو بعيد على أنهما من الملائكة، كما استنتج بعض المفسّرين.. فإنّ الإنسان قد يدخل البيوت من غير أبوابها لسبب من الأسباب، وليس في الآيات أيّ ذكر للملائكة، والمفهوم من كلمة الخصمين اثنان من الناس، فتأويلهما بملكين لا مبرّر له .


{قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ}. حين رأيا ما حلَّ به من الخوف، أسرعا إلى طمأنته وقالا: جئنا للتقاضي عندك، فاحكم بالعدل، وأرشدنا إلى الحقّ ولا تنحرف عنه، ثم قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أعطنيها، {وعزَّني في الخطاب}، غلبني في القول. والنعجة أنثى الضّأن، ولا داعي للتّأويل، فظاهر الآية أنّ حادثة من هذا النوع وقعت في عهد داود، ولها أمثال في كلّ زمان ومكان، بخاصّة في زماننا، فيجب الأخذ بالظاهر والعمل به .{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}[ص: 24].
قال داود هذا قبل أن يطلب من المدّعي البيّنة، ويستوجب المدَّعى عليه {وإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ}. قال المفسّرون: المراد بالخلطاء الشّركاء، ولكن لا شراكة بين المتخاصمين، والسّياق يومئ إلى أنّ المراد بهم الأقوياء ولو من باب المجاز {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ}. القوّة للحق إذا كانت في يد الأخيار، أما إذا ملكها الأشرار، فهي على الحقّ من غير شكّ، وأهل الخير قلّة في عددهم، ولكنهم أقوياء في أخلاقهم وصفاتهم .
{وظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعاً وأَنابَ}، بعد أن حكم داود لأحد الخصمين، تنبّه إلى أنه حكم له قبل أن يدلي الخصم الآخر بحجّته، فندم وطلب من الله العفو والمغفرة {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[ص: 25] . غفر الله لداود لأنّه من السّابقين الأوّلين إلى طاعة الله ومرضاته .


وفي كتاب «عيون الأخبار» للشّيخ الصدوق: أنّ سائلاً سأل الإمام الرّضا (ع) عن قصّة داود مع أوريا وزوجته، فنفى الإمام ما ينسبه الناس إلى داود. فقال السائل: ما كانت خطيئته يا بن رسول الله؟ فأجاب بجواب طويل جاء فيه:
"عجّل داود على المدّعى عليه، فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ}، ولم يسأل المدَّعي البيّنة، ولم يقبل على المدَّعى عليه، فيقول له: ما تقول، فكان هذا خطيئة رسم الحكم، لا ما ذهب إليه النّاس، ألا تسمع الله عزّ وجلّ يقول: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}"[ص: 26].
وتسأل: كيف حكم داود للمدَّعي من غير بيّنة، مع أن الأنبياء معصومون عن الخطأ والخطيئة؟
الجواب: ليس معنى العصمة أنَّ للمعصوم طبيعة غير طبيعة النّاس بخصائصها وغرائزها. كلا، إن هو إلا بشر، وإنما معنى العصمة، أن الله سبحانه يلطف بالمعصوم، ولا يتخلّى عنه إطلاقاً، فإذا حاول - مثلاً - أن يخدعه إنسان بحسن مظهره، أرشده الله إلى حقيقته قبل أن يقع في الشّباك، وهذا ما حدث بالفعل لداود، خدعه صاحب النعجة الواحدة بأسلوبه الّذي يثير الإشفاق والرّحمة، فحكم له، ولكن الله ألهمه الحقيقة قبل تنفيذ الحكم، فاستدرك وأناب .
وقريب من هذا، ما حدث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مع سارق ادَّعى براءته، وكاد الرّسول الأعظم ينخدع لولا أن ثبّته الله بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً}، أي لا تخاصم عن الخائنين، {واسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً * ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ}[النساء: 106]، ج 2، ص 429.
وقال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم محمّداً (صلى الله عليه وآله): {ولَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}[الإسراء: 74].

وفي الحديث الشّريف: "إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له شيئاً من حقّ أخيه، فإنما أقضي له قطعة من نار".
وهذا الحديث لا ينطبق تماماً على ما نحن فيه، ولكن يمكن الاستئناس به. أمّا توبة الأنبياء واستغفارهم من الذّنوب، فهي ضرب من العبادة والتّواضع لله سبحانه. وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرّة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد