الشيخ محمد صنقور
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾(1)، لماذا ذكرت الآية المباركة النساء ونهتهنَّ عن السخرية رغم أنَّ عنوان القوم يشمل النساء؟ والسؤال الآخر: ما هو سبب نزول هذه الآية المباركة؟
الجواب:
يُطلقُ عنوان القوم بحسب الأصل اللغويِّ والاستعمال العرفيِّ عند العرب على خصوص جماعة الرجال دون النساء، ولذلك قال الشاعرُ العربي:
وما أدري وسوف أخال أدري
أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ
فالشاعرُ استعمل عنوان القوم في الرجال دون النساء، وذلك بقرنية المقابلة.
ومنشأُ إطلاق عنوان القوم على خصوص الرجال هو أنَّ القائمين بالمهمات هم الرجال عادةً دون النساء أو أنَّ الرجال هم القواَّمون على النساء، فهم الذين يقومون بشؤون رعايتِهن وحياطتِهن.
وعليه ففي كلِّ موردٍ استُعمل فيه عنوان القوم في الأعمِّ من الرجال والنساء، فذلك لقيام قرينةٍ على إرادة ذلك، ففي مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(3) استُعمل فيها لفظ القوم في الأعمِّ من الرجال والنساء، وذلك لوضوح ،نّ الرُسل لا تُبعث للرجال دون النساء و،نَّ اللغة لا يختصُّ بها الرجال دون النساء.
ثم إنَّه لا مانع من القبول بدعوى أنَّ عنوان القوم يُطلقُ في الأصل على الأعم من الرجال والنساء فيكون المنصرَف من هذا العنوان عند الإطلاق هو الأعم إلا أنْ تقوم قرينةٌ على إرادة خصوص جماعة الرجال، وحيثُ أنَّ الآية اشتملت على قرينةِ المقابلة لذلك كان عنوان القوم فيها متعيِّناً في إرادة جماعة الرجال.
وبتعبير آخر: إنَّ عنوان القوم في الآية المباركة مستعملٌ في خصوص جماعة الرجال على أيِّ تقدير، فسواءً قلنا: إنَّ لفظ القوم مجعولٌ بحسب الوضع اللغويِّ على خصوص جماعة الرجال أو قلنا: إنَّه مجعولٌ بحسب الأصل اللغويِّ في الأعمِّ من الرجال والنساء، أما بناءً على الأول فواضح إذ إنَّ لفظ القوم استُعمل في معناه الموضوع له لغةً في مقابل النساء وأما بناءً على الثاني فلفظُ الرجال وإنْ كان بحسب الأصل اللغويِّ يُطلق على الأعم إلا أنَّه استُعمل في هذه الآية في خصوص جماعة الرجال، وذلك بقرينة المقابلة.
فالآيةُ المباركة قالت: ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ﴾ ثم قالت: ﴿وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء﴾ فالمقابلة بين القوم والنساء في موضعٍ واحدٍ قرينةٌ على أنَّ المراد من القوم غير النساء وليسوا سوى الرجال، ويتأكَّد ذلك بتعارف إطلاق لفظ القوم على خصوص الرجال حتى مع القبول بأنَّ الوضع اللغوى كان للأعم.
وعليه فمعنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ﴾ هو النهى عن أنْ يسخر الرجالُ بعضهم ببعض ومعنى قوله: ﴿وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء﴾ هو النهي عن أن تسخر نساءٌ بنساءٍ أخريات، والتنصيصُ في النهى على كلِّ جنس بحدةٍ نشأَ ظاهراً عن أنَّ ذلك أوقع في الردع، حيثُ يتمُّ التنُبُّه إلى أنَّ كلاً من الجنسين مَعنيٌ بهذا الردع والنهي المولوي، ولعلَّ المنشأ الآخر للتنصيص على كلا الجنسين هو الإشارة إلى سبب النزول وأنَّ رجالاً كانوا قد سخروا من رجال، وأنَّ نساءً كنَّ قد سخرنَ من نساء فيكون التنصيصُ أبلغَ في ردع هؤلاءِ وهؤلاء.
سبب نزول الآية المباركة:
وأما سببُ نزول الفقرة الأولى من الآية المباركة، وهي قوله تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾.
فذكر ابنُ أبي حاتم في تفسيره عن مقاتل أنَّها نزلت في قوم من بني تميم استهزأوا من بلال وسلمان وعمَّار وخبَّاب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حُذيفة"(4)، وحكى مثل ذلك الثعلبي في تفسيره عن الضحاك قال: نزلت في وفدٍ من بنى تميم... استهزأوا بفقراء أصحاب الرسول (ص) مثل عمَّار وخبَّاب وبلال وسلمان وسالم مولى أبي حُذيفة لمَّا رأوا من رثاثة حالهم(5).
وحكى الثعلبيُّ أيضاً في تفسيره عن ابن عباس أنَّ هذه الفقرة من الآية: نزلت في ثابت بن قيس، وذلك أنَّه كان في أذنه وقرٌ، فكان إذا أتى رسولَ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمعُ ما يقول، فأقبل ذات يوم، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله (ص) فلمَّا انصرف النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة أخذ أصحابُه مجالسهم (منه فربضَ) كلُّ رجل بمجلسه، فلا يكادُ يوسع أحدٌ لأحد، فكان الرجل إذا جاء، فلم يجد مجلساً، قام قائماً، كما هو فلمَّا فرغ ثابتٌ من الصلاة، وقام منها أقبل نحو رسول الله فجعل يتخطَّى رقابَ الناس، ويقول: تفسَّحوا تفسَّحوا، فجعلوا يتفسَّحون له حتى انتهى إلى رسول الله (ص) وبينه وبينه رجل.فقال له: تفسَّح فقال له الرجل: قد أصبت مجلساً فاجلس فجلس ثابت من خلفِه مغضباً، فلمَّا أُبينت الظلمة غمز ثابت الرجل وقال: مَن هذا؟ قال: أنا فلان فقال له ثابت: ابن فلانة، ذكر أُمَّاً له كان يُعيَّر بها في الجاهليَّة فنكَّس الرجلُ رأسه واستحيى، فأنزل اللهُ عزّ وجل هذه الآية(6). وذكر ذلك الواحديُّ في كتابه أسباب النزول إلا أنَّه لم ينسبه إلى ابن عباس، ولعلَّ النزول نشأ عن كلا الأمرين المذكورين.
وأمَّا الفقرةُ الثانية وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ فأكثرُ المفسِّرين من الفريقين ذكروا أنَّها نزلت في عائشة أو فيها وفي حفصة زوجتي النبيِّ الكريم (ص) فذكروا أنَّ عائشة سخِرت من أمِّ سلمة زوجة النبيِّ (ص) ووصفتها بالقصر في القامة أو أشارت بيدها إلى قصر قامتها أو أنَّها وصفت ثوباً لأمِّ سلمة كانت قد لبسته فتدلَّى طرفٌ منه خلفها فوصفته عائشة بقولها "مخاطبةً حفصة"انظري ما تجرُّ خلفها كأنَّه لسانُ كلب"(7).
ورُويَ عن ابن عباس أنَّ الآية نزلت عند ما شكت صفيةُ بنت حيِّ بن أخطب زوجة النبيِّ (ص) إليه نساءً يُعيِّرنها بأنَّها يهوديَّة بنت يهوديين، فقال النبيُّ (ص) لها هلا قلتِ: "إنَّ أبي هارون وإنَّ عمِّي موسى وإنّ زوجي محمَّد" فنزلت هذه الآية(8).
وأورد النووي في المجموع عن أنس: "بلغ صفيَّة أنَّ حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبيُّ (ص) وهي تبكى وقالت: قالت لي حفصة: أنت ابنة يهودي! فقال النبيُّ (ص): إنَّك لابنة نبيٍّ وإنَّ عمَّك لنبيٌّ وإنَّك لتحت نبيٍّ، فبم تفتخرُ عليك؟ ثم قال: اتَّقي الله يا حفصة» ثم قال رواه أحمد والترمذي وصحَّحه والنسائي(9).
وأفاد القمِّي في تفسيره أنَّ من يُعيرِّنها بذلك هما عائشة وحفصة(10).
وروى الترمذيُّ بسندٍ وصفه القرطبي في تفسيره بالصحيح عن عائشة قالت: حكيتُ للنبيِّ(ص) رجلاً فقال: "ما يسرُّني أنِّي حكيتُ رجلاً وأنَّ لي كذا وكذا، قالت فقلتُ: يا رسول الله إنَّ صفية امرأة وقالت بيدها هكذا، يعني أنَّها قصيرة فقال(ص): لقد مزجت بكلمةٍ لو مُزج بها البحر لمُزج"(11).
ومعنى "حكيتُ رجلاً "فعلتُ مثل فعله في مشيه أو جلستِه لغرض الانتقاص منه والسخرية به.
________________________________________
1- سورة الحجرات آية رقم 11.
2- سورة هود آية رقم 25.
3- سورة إبراهيم آية رقم 4.
4- تفسيرأبي حاتم ج10 ص 3304.
5- تفسيرالثعلبي ج 9 ص80.
6- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج 9 ص 80.
7- لاحظ: تفسير مقاتل بن سليمان ج3/262, تفسير السمرقندي لأبي الليث السمرقندي ج3/311, تفسير الثعلبي ج981, أسباب النزول للواحدي النيسابوري: 263, تفسير البغوي ج4/214, زاد المعاد لابن الجوزي ج7/182, تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسى ج8/112, تنوير المقباس من تفسير ابن عباس للفيروز آبادي: 436, مجمع البيان للطبرسي ج5/224.
8- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج 9 ص 81، أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص 264، تفسير جوامع الجامع -الشيخ الطبرسي- ج 3 ص 406.
9- المجموع للنووي ج 15 ص 353.
10- تفسير القمي ج3 ص 321.
11- سنن الترمذي -الترمذي- ج 4 ص 72، تفسير القرطبي -القرطبي- ج 16 ص 326.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
النّسخة الألمانيّة من كتاب الجشي (ألواح الطّين في كهف نيتشه)
الشّيخ صالح آل إبراهيم: الاحتياجات الزّوجيّة
إشارة وتواصل.. بالأنامل
الشيخ عبد الجليل البن سعد: الحياة عدو وصديق
الشيخ عبد الجليل البن سعد: حبّ الله ورسوله
الشيخ عبد الجليل بن سعد: الدور المنسي في التعاون
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق