قرآنيات

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ

الشيخ محمد جواد مغنية

 

"كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ؟" الآية 28 - 29 :

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: 28 و29).

الإعراب:

"كيف" اسم استفهامٍ، يُسأل بها عن الكيف، وهي الحال، كما يُسأل بـ"كم" عن الكم، وهو العدد، وبـ "أين" عن المكان، وبـ "متى" عن الزمان، ومحل "كيف" النصب على الحال من "تكفرون"، وهي متضمنةٌ هنا معنى الإنكار والتعجّب، والضمير من "سوّاهن" يعود إلى السماء؛ لأنّه اسم جنسٍ يصح إطلاقه على القليل والكثير، و"سبع سماوات" بدل من الضمير، وهو "هنّ". وقيل: بل تمييزٌ مفسرٌ لهذا الضمير، وقيل: يجوز أن تكون "سبع سماواتٍ" مفعولاً ثانياً لـ"سواهنّ"، لأنّها بمعنى صيّرهنّ.. و"جميعاً" حال من "ما فِي الأَرْضِ".

الإنسان بذاته برهان:

الظاهر من سياق الكلام أن الخطاب في هاتين الآيتين موجّهٌ إلى من لا يُجدي معه ضرب الأمثال شيئاً، ولكنّه في واقعه يشمل كلّ من كفر باللَّه، مع وجود هذه الدلائل والبراهين التي لا يبلغها الإحصاء.

منها: هذا الكافر الجاحد، فإنّه هو بالذات برهانٌ واضحٌ على وجود خالقه، وإلا فمن الذي أوجده على هذا النظام الدقيق، ووضع كلّ شيءٍ منه في مكانه الخاص به من خلايا المخ والقلب، إلى الأمعاء والكبد، إلى السمع والبصر، إلى الأطراف والشرايين، إلى ما لا نهاية.. وكلٌّ يؤدّي مهمّته بدقّةٍ بالغةٍ دون تعهّدٍ وإشرافٍ من مخلوقٍ..

وأيضاً من أين جاء هذا الفهم والعقل الذي به قرّب البعيد، وسهّل العسير، وجمع ما في الأرض في بيتٍ واحدٍ، ثم ارتقى ووضع آثاره ومعالمه على سطح القمر.. فهل هذا وغير هذا جاء صدفةً وعفواً؟ وهل في خصائص الأشياء ما يؤدّي إلى هذا التنسيق والتنظيم؟ وهل يستطيع العلم أن يجيب على ذلك؟ وبالأصح، هل الإجابة عنه من اختصاص العلم التجريبيّ؟.

وحاول من حاول أن يجيب.. ولكن تولّد من سؤاله ألف سؤالٍ وسؤالٍ.. نحن لا ننكر أبداً أن علماء الطبيعة قد توصّلوا إلى حقائقَ باهرةٍ مذهلةٍ في الطب والزراعة والصناعة.. ولكن علماء الحياة ما زالوا ينظرون في فراغٍ، وهم يبحثون عن سرّها وأصلها، ولا شيء لديهم سوى ظنونٍ لا تُغني عن الحق شيئاً..

وبديهةٌ أن كلّ ما تعجز الطبيعة عن تفسيره يتحتّم تفسيره بما وراءها. وإذا كان وجود الإنسان هو البرهان القاطع على وجود اللَّه سبحانه فكيف ساغ لهذا البرهان أن يجحد الدلالة الملازمة له؟ كيف ساغ للفصيح البليغ أن يجحد فكرة الفصاحة والبلاغة من الأساس؟.

وهنا يكمن سر التعجّب في قوله سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ} أي ما أعجب أمركم وكفركم باللَّه، وأنتم بالذات الدليل الواضح القاطع على وجوده.. ومهما أنكرتم وكابرتم، فهل تستطيعون أن تنكروا وتكابروا في أنّكم لم تكونوا شيئاً من قبل، فصرتم شيئاً يسمع ويرى، ويحس ويدرك، ويقول ويفعل؟.

أليس هذا دليلاً ناطقاً بوجود القوّة الخالقة؟.. حقّاً أن الإنسان لظلومٌ كفّارٌ.. وما كفره بوجود اللَّه إلا كفرٌ وجهلٌ بوجوده هو[1].. ومن جهل نفسه فأولى به أن ينكر ويجهل غيره.. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف: "أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه".

وتقول: وأي عاقلٍ ينكر وجود نفسه؟ وهل يعقل ذلك؟.

ونجيب: أن الدليل يستلزم المدلول، وإنكار اللازم يستدعي حتماً إنكار الملزوم، فمن أنكر دلالة الألفاظ - مثلاً - على ما وُضعت له من المعاني فقد أنكر الألفاظ بالذات، من حيث يريد أو لا يريد، ولا يجديه أن يعترف بها في حين أنّه ينكر دلالتها.. وهذا هو الشأن في الجاحد، فإن وجوده دليل وجود الخالق، ووجود الخالق سبحانه مدلولٌ له، فإذا أنكر هذا المدلول فقد أنكر الدليل، وهو الجاحد بالذات من حيث لا يحسّ ولا يشعر..

وهكذا يفعل الجهل بصاحبه، يفصله عن نفسه، وعن الطبيعة التي يعيشها ويحياها، ويحمله من حيث لا يشعر على أن يجحد أوضحَ الواضحات، ويؤمن بالأساطير والسخافات.

ـــــــــــــــــــــ

[1] قال شارلي شبلن السينمائي العالمي الذي فاقت شهرته شهرة غاندي: «إن في مملكة المجهول طاقةً خيّرةً لا حدّ لها». وقال كيركجارد : «إن اللَّه يتجلّى للنفس اليائسة في أحلك لحظات اليأس، وفي أسفل دركات الخطيئة».

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد