قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾

معنى الإمام

إنّ البحث حول عبارة "الإمام" هو أوّل بحثٍ يمكن الحديث عنه؛ فكلمة "الإمام" قد اتخذت في ثقافتنا الشيعية معنىً خاصاً، يراد به أئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام. أما معناها اللغوي فإن "الإمام" هو الشخص الذي يتولّى مركز القيادة بالنسبة للمجموع. وهذه الإمامة والقيادة لا اختصاص لها بمسألة الهداية والسعادة، بل هي أوسع من ذلك حيث تطلق على قائد الضلال والكفر أيضاً. إذ جاء في القرآن الكريم الإشارة إلى الأئمة الذين يرشدون الناس إلى السعادة والنجاة: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73). وأشار أيضاً بهذه العبارة إلى الأشخاص الذين يقودون الناس نحو الكفر ونحو النار: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ﴾ (القصص: 41).

 

عبارة "الإمام" في القرآن

استعملت عبارة "الإمام" في القرآن الكريم في موارد متعددة من أبرزها:

"الكتاب الإلهي": في قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة﴾ (هود: 17). هنا أُطلقت عبارة "الإمام" على الكتاب المقدس لموسى عليهم السلام. الأئمة الوارثين: من الموارد الأخرى التي استعمل فيها القرآن الكريم كلمة "إمام" (طبعاً على شكل الجمع: الأئمة)، الآية التي تقول: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5) إذ تؤكد الرّوايات الواردة أنّ وليّ العصر عجل الله فرجه وحكومته العالميّة هما المصداق الأتمّ والمصداق العينيّ والكامل للآية الشريفة. إلَّا أن ظاهر الآية الشريفة عام وكلّي ولا اختصاص له بذلك. وهناك الكثير من الآيات الشريفة في القرآن الكريم التي كانت على هذا النحو، أي أن يكون ظاهر الآية عاماً وكلياً إلا أنها تنطبق على المصداق الكامل والتام بعنوان المعنى "الباطن" أو "التأويل".

والمقصود من ذكر معاني الإمام أن لا ينصرف ذهننا عند تلاوة قوله تعالى ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ إلى هذا المعنى. فهم لا يطلبون أن يصبحوا أئمة معصومين، على أساس أن المقصود من "الإمام" هنا، هو المعنى العام الذي يراد منه الشخص الذي يكون قائداً لمجموعة.

 

ثلاثة شروط للإمامة

بناءً على ما تقدم من توضيح، فإن الذي يرغب في أن يكون "إماماً" وقائداً لمجموعة من الناس، لا بدّ من وجود ثلاث خصائص وشروط خاصة فيه تؤهله ليتحرك في مقدمة الجمع.

الشرط الأول: الإمام والقائد لا ينتظر الطريق الذي يختاره الناس ثم يتابعهم في ذلك. فالشخص الذي يتحرك خلف المجموع لا يطلق عليه عنوان "الإمام". طبعاً الذي يتحرك في مقدمة الجمع، قد يكون إماماً معصوماً أو إمام حق آخر كأئمة المستضعفين الذين أشار إليهم مفاد الآية المتقدمة.

الشرط الثاني: إن "الإمام" الحقيقي في الرؤية القرآنية لا بدّ له أن يكون عارفاً بالطريق. فإنّ الذي يجهل الطريق لا يمكنه أن يتقدّم الجمع. وقد أوضح القرآن الكريم هذا الأمر بوضوح: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: 35). على كل حال فإنّ آية ﴿أَفَمَن يَهْدِي﴾ هي من جملة الآيات الشريفة التي يمكن الاستناد إليها لإمامة أئمة أهل البيت عليهم السلام. في هذا الإطار نشاهد أن الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت عليهم السلام قد صرّحوا بأنّهم عارفون بأحكام الإسلام ومصالح المجتمع الإسلامي وهم على بصيرة في هذا الخصوص. وهذا يختلف عن الذين كانوا يصرّحون بأنهم لا يعرفون الحكم الفلاني ولا يدركون القضيّة الفلانيّة والذين يقولون "اسألوا علياً". فهل يجب اتباع هؤلاء الأشخاص أم يجب اتباع العارفين بالأحكام وبمصالح المجتمع؟ فما لكم كيف تحكمون!

الشرط الثالث: يجب أن يمتلك الإمام القدرة على هداية الآخرين، والأخذ بأيديهم وإرشادهم إلى الهدف. هذه العناوين الثلاثة هي الحد الأقل من الخصائص المفترض وجودها في الإمام، والذي يفتقد إحداها يكون غير صالح للإمامة والقيادة.

 

هل يسعى عباد الرحمن لأجل الرئاسة؟

السؤال الآخر الذي يجب الإجابة عنه في موضوع خصوصية عباد الرحمن، هو الهدف من طلبهم من الله تعالى أن يجعلهم للمتقين إماماً وهل فيه نوع من حب المقام والسلطة والرئاسة والدنيا؟ طبعاً، يمكن الإجابة عن هكذا تساؤلات بعد قليل من الدقة والتأمل. نحن نظن أن عباد الرحمن عندما يطلبون من الله تعالى أن يجعلهم للمتقين إماماً إنّما ذلك بسبب ما يمتلكون من روحية طلب الجاه والرئاسة وأمثالها من الأمور التي يسعى وراءها الأشخاص العاديون. والحقيقة غير ذلك؛ لأن أهداف عباد الرحمن من وراء هذا الطلب ليس الأطماع والأهواء الدنيوية والمادية، بل هو نتيجة ما يمتلكون من همّة عالية ورؤية واسعة. لقد تقدم هؤلاء في مسير عبودية الحق بحيث أصبحوا لا يقتنعون بما حصل لأنفسهم من السعادة والهداية، بل صاروا يتطلعون إلى الأخذ بأيدي الآخرين وإيصالهم إلى مرتبة السعادة والنجاة. فعباد الرحمن عندما يطلبون هذا المقام إنما يطلبونه لأجل الناس لا لأجل أن يصلوا إلى مناصب يكونون من خلالها محترمين عند الناس. يَفترضُ عباد الرحمن أنهم يتحركون في مسير خاص بالمتقين. لذلك يكون دعاؤهم إشارة إلى ما يمتلكون من همة عالية حيث يرغبون بالقيام بدور ما، دور القيادة في بيئة الأتقياء. إن هذا الدعاء هو كالدعاء الذي يتوجه به بعض الناس إلى الله تعالى؛ فيطلب منه أن يكون واسطة إيصال الفيض إلى الآخرين، كالذي يطلب من الله تعالى أن يرزقه المال لأجل الآخرين، فهذا لا إشكال فيه. وإذا كان الإنسان صادقاً في هذا الدعاء كان من جملة الأمور الأخروية وليس الدنيوية.

ولعل من الخطوات الكبيرة في مسيرة التكامل، أن الإنسان لا ينبغي أن يفكر بنفسه فقط وأن لا يتمنى الوصول إلى السعادة والقرب الإلهي لنفسه فقط، بل يجب عليه طلب ذلك للآخرين أيضاً. صحيح أن الشريعة قد ذكرت وحددت تكاليفنا ووظائفنا، إلا أن الدافع الأساس وراء قيامنا بهذه التكاليف هو تكاملنا. فعندما ندفع الخمس والزكاة فنحن ندرك أن هناك من يستفيد منهما لدفع فقره إلا أننا نقوم بذلك لتصبح أموالنا حلالاً ولنبعد أنفسنا عن نار جهنم. وإذا كان هاماً عندنا أن نعمل لنصل إلى مقام القرب الإلهي، فعلينا أن نستشعر هذا الاهتمام اتجاه الآخرين لنصل أيضاً إلى ذاك المقام. إن المؤمنين الذين وصلوا إلى حقيقة لذة المناجاة الإلهية والذين وصلوا إلى مقام ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ (السجدة: 16) ووصلوا إلى الثواب الإلهي ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة: 17). هؤلاء يدعون الله تعالى خفية في أن يجعل الآخرين شركاء فيما هم فيه من نعمة ولذة. أما الذي يطلب من الله تعالى أن يجعله أماماً للمتقين فهو لا يكتفي بما يقوم به المؤمنون، بل يريد ما هو أعلى من ذلك؛ إذ يطلب من الله أن يهب الآخرين ما وهبه. إنّ النّبي إبراهيم عليه السلام الذي وصل إلى مقام التسليم الكامل ومقام ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ﴾ (آل عمران: 20) لا يرضى أن يمتلك هذا المقام لنفسه فقط، بل يدعو مع إسماعيل عليه السلام أن يجعل هذا المقام لذريتهما: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ (البقرة: 128). وبعد أن يدعو عباد الرحمن لأنفسهم لأجل الوصول إلى أعلى الكمالات، يطلبون الخير والسعادة لذرياتهم وأزواجهم ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾. ولا يكتفون بهذا المقدار، بل يطلبون ذلك لجميع الأشخاص حيث يريدون للجميع الوصول إلى القرب الإلهي لذلك يتوجهون إلى الله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.

 

إمامة المتقين

خلاصة الكلام هنا أن هذه الآيات تحاول رسم صورة "القدوة" حيث أراد الله تعالى من خلال هذه الآيات تقديم نموذج وقدوة من العباد الصالحين فأشار في توضيحها إلى الجوانب الإيجابية وإلى الجوانب السلبية عندهم. وأخيراً أشارت الآيات الشريفة إلى الخاصية التي نحن بصدد دراستها حيث إن عباد الرحمن لا يكتفون بسعادة أنفسهم، بل يتطلعون إلى سعادة وصلاح الآخرين. ما لا شك فيه أن أعلى مقام من مقامات إمامة المتقين قد حصل للأئمة الاثني عشر المعصومين عليهم السلام. وقد وجدت الخصائص الثلاث التي أشرنا إليها أثناء البحث فيهم على نحو أتم وأعلى وأكمل. أما في زماننا فإن المصداق الأكمل لهذه الإمامة هو "الولي الفقيه" الذي يقف على رأس المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون الولي الفقيه أكثر معرفة بالإسلام من الجميع وإلا لما أمكنه إرشاد المجتمع الإسلامي كما يجب. كذلك يجب أن يكون عاملاً بالإسلام. وبعبارة أخرى يجب أن تجتمع لديه صفات: العلم والتقوى والعدالة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد