"لَقَدْ تَجَلَّى اللَّهُ لِخَلْقِهِ فِي كَلَامِهِ وَلَكِنّهم لَا يُبْصِرُونَ".[1] [الإمام الصادق(ع)]
شاء الله تعالى أن يتجلى في كتاب، وأن يعبّر عن إرادته في كتاب. صار القرآن الطريق الوحيد للارتباط بالله تعالى. قطع الارتباط بكتاب الله هو قطيعة مع الله عز وجل. يتفق جميع المسلمين على أنّ القرآن يبقى المصدر الأول لمعرفة الدين، ويكاد يوجد إجماع بينهم على أنّ السنّة القطعية للعترة المطهرة هي التي وردت في وصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في حديث الثقلين. وهذه السنّة بمثابة الشارح المبيِّن لمرامي القرآن ومقاصده.
محورية القرآن في الحياة والمصير لا شك فيها. يمكن أن يُقاس كل مسلم على أساس علاقته بهذا الكتاب الإلهي في الدنيا وعند مواقف القيامة وفي الجنة. جميع المشاكل التي نعاني منها كجماعة أو أفراد تعود إلى خلل ما في هذه العلاقة. لم يتخلَّ أي مفكّر بارز في الإسلام عن هذه الفكرة، وقد تم التأكيد عليها مرارًا في جميع المدارس السلوكية والعرفانية.
البحث عن حل لأي مشكلة أو مخرج من أي معضلة لن يكون إلا عبر التمسُّك بكتاب الله المجيد. وهناك من استطاع أن يفسر تاريخ المسلمين في أمجاده ومآسيه وفي صعودهم وسقوطهم المدوي انطلاقًا من هذه العلاقة بالتحديد. ما أصابهم من مصيبة إلا بسبب إعراضهم أو إهمالهم أو استخفافهم بالقرآن الشريف.
وهنا، إن أردنا أن نضع الإصبع على أصل المشكلة، فإنّ الأمر يرجع بالدرجة الأولى إلى ضعف علاقة المسلمين بالكتاب والمطالعة. القرآن الكريم حين يزدهر في حياة المسلمين فإنّ الكتاب يزدهر، وحين يخبو ويخمد فإنّ الكتاب يخبو معه.
المقصود بالكتاب هو النشاط العلمي والفكري المتألق. حين يزدهر النشاط العلمي في أي مجتمع فلا شك بأنّه سيظهر في إنتاج الكتب وتحوُّل المطالعة إلى ظاهرة عامة. ما تُرك أو أُهمل من كتاب الله في الواقع كان ذلك الجانب العلمي منه، وبعدها تبعه كلُّ شيءٍ آخر. حين أعرض المسلمون عن علوم القرآن، صار القرآن في النهاية مهجورًا.
لن ندخل الآن في دراسة أسباب هذه المهجورية، فإنّ لها قصة أخرى؛ لكن بعث الحياة في ارتباط المسلمين بكتاب الله يصبح ممكنًا حين يستعيد الكتاب دوره في المجتمع. التفريق بين حياة القرآن وحياة الكتاب هو الذي يميتهما معًا. فالقرآن حين يعمل عمله في المجتمع يبث طاقة عظيمة ملهمة تدفع الناس نحو الإبداع الفكري الذي لا نهاية له. تتفجر معارف القرآن في نفوس المتمسكين به بصورة لا يمكن لأحد أن يحد منها. خنق هذا الإبداع يؤدي إلى سد مجاري القرآن. وهذا ما أدى إلى ضعف حضور كتاب الله في المسلمين.
كما قلنا، هناك عوامل عديدة أدت إلى ظهور هذه الأفكار الهدامة في المجتمع. كانت البداية إصرار بعض الحكام على الفصل بين الثقلين بالرغم من الوصية المؤكدة للنبي بأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض. إسكات صوت الترجمان يؤدي إلى صمت الكتاب نفسه.[2]
بحجة الحفاظ على نقاء القرآن ليبقى الصوت الأوحد في المجتمع تم كمّ الأصوات الأخرى، وبعدها لم يبقَ سوى صوت الشيطان. لو قلنا بأنّ الدور الأول للقرآن يكمن في تثوير العقول لتُنتج وتُثمر لما كان في قولنا مبالغة. هذه هي الحياة القرآنية التي يكون فيها كتاب الله متجليًا ومنعكسًا فيما لا يُحصى من الأفكار والمعارف التي تصدر من الأفئدة عبر العقول.
التشجيع على الكتابة وترسيخ حضور الكتاب في حياة الأمة لا يمكن أن يتجاوز القرآن. لأنّ الأمة حين تبدأ بالمطالعة فسوف يكون القرآن هو الـمُلهم الأكبر لها، وستعود إليه دومًا. هذا ما يُشبه كل أفعال الإيمان التي ليست سوى تجلٍّ لحضور الله تعالى. كلما ازداد المرء إيمانًا اقترب من حقيقة {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى}.[3]
الحرية الفكرية لأيّ مجتمع لا يمكن تحققها إلا في ظل حياة الكتاب والمطالعة. الحرية الفكرية تتطلب إزالة جميع الموانع أمام المفكر والناس. المفكرون هم مخاض حركة الأمة نحو حريتها. كلما كانت الحرية الفكرية أكثر قوة وسلاسة أنتجت المزيد من الفكر والمفكرين. عزل المفكر عن الناس يعني قتل الحرية الفكرية في المجتمع كله.
القرآن كتاب في ظهوره النهائي؛ مصحف وصفحات وجمل وكلمات. لا يمكن أن يكون القرآن حاضرًا في أي بيت مسلم ليس فيه مكتبة. سيعلوه الغبار ثم يصبح مهجورًا يحكي عن خراب البيت وأهله. حين يحضر القرآن في بيت المسلم يجتمع حوله تفاسير ومن التفاسير تفاسير ومصادر ولا يتوقف الأمر عند حد.
تجتمع التفاسير لتثبت أنّ قعر القرآن لا يمكن أن يُدرك وأنّنا سنحتاج إلى مكتبات كثيرة لكي نغوص في بحاره. هكذا تتفجر كلمة الله في سبعة أبحر من مداد ثم نجد أنّها لا تنفد. أينما عاش القرآن وحيِيَ عاشت الكتب والكتابة والمطالعة وحيِيَت. فهو طريق بالاتجاهين. من القرآن وإلى القرآن. ويكون عالم الكتاب ساحته والأرض التي تزدهر به.
متى ما أصبحت المطالعة متعة تقدمنا خطوة إضافية نحو القرآن الذي قراءته أعلى متعة. ومتى كانت المطالعة طريقًا للمعرفة تقدمنا خطوة إضافية نحو القرآن الذي هو أصل كل المعارف ومنبع كل الحقائق.
الذين جهلوا هذه الحقيقة ما كان لهم سابقة مع القرآن، لأجل ذلك حاروا وداروا بحثًا عن حل لمشكلة الجهل في المجتمع. لكن الذي وفقه الله تعالى للاتصال بهذا المنبع العظيم يعرف سر الغنى في الفكر والروح والمعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1]. بحار الأنوار، ج89، ص107.
[2]. جاء في عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، ص330: عن الإمام علي(ع): "هذا كِتابُ اللّه الصّامِتُ، وأنَا الـمُعَبِّرُ عَنهُ، فَخُذوا بِكتابِ اللّه النّاطِقِ، وذَرُوا الحُكمَ بِكتابِ اللّه الصّامِتِ؛ إذ لا مُعَبِّرَ عَنهُ غَيري".
[3]. سورة الأنفال، الآية 17.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
النّسخة الألمانيّة من كتاب الجشي (ألواح الطّين في كهف نيتشه)
الشّيخ صالح آل إبراهيم: الاحتياجات الزّوجيّة
إشارة وتواصل.. بالأنامل
الشيخ عبد الجليل البن سعد: الحياة عدو وصديق
الشيخ عبد الجليل البن سعد: حبّ الله ورسوله
الشيخ عبد الجليل بن سعد: الدور المنسي في التعاون
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق