قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

كيف يُظهِر القرآن كلّ خفيّ ويحلّ كلّ مُعضل؟

 (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). «1» وقد كان النصف الأوّل لهذه الآية: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).

 

يستفاد من ذيل هذه الآية المباركة أنّ القرآن الكريم هو الموضّح والمبيّن لكلّ شيء، ويمثّل بشكل مطلق الهداية والرحمة والبشرى للمسلمين الحقيقيّين الذين اتّخذوا الإسلام ديناً ونظاماً، وصدّقوا بنبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أكرم الأنبياء من الأوّلين والآخرين والشاهد عليهم أجمعين، وآمنوا بهذا الكتاب السماويّ. القرآن.

 

وقد وردت أحاديث بهذا الشأن عن الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم في تفصيل هذه المسألة؛ فيروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ بإسناده عن مرازم، عن الإمام الصادق عليه ‌السلام أنّه قال: إنَّ اللهَ تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئًا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه. «2»

 

ويروي الكلينيّ أيضاً، بإسناده عن عمرو بن قيس، عن الإمام الباقر عليه ‌السلام، قَالَ: سمعته يقول: إن الله تعالى لم يدع شيئًا يحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبيّنه لرسوله عليه السلام؛ وجعل لكل شيء حدًّا، وجعل عليه دليلًا يدل عليه، وجعل على من تعدي ذلك الحد حدًّا. «3»

 

ويروي الكلينيّ كذلك بإسناده عن مُعَلَّى بن خُنَيْس، قال: قال الإمام الصادق عليه ‌السلام: مَا مِنْ أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إلَّا وَلَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ؛ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ. «4»

 

وقد نقل المرحوم الجامع لجميع العلوم النقليّة والعقليّة المولى محسن الفيض الكاشانيّ رضوان الله عليه في المقدّمة السابعة من تفسيره الشريف المسمّى بــــ «الصافي» عن بعض أهل المعرفة كلاماً دقيقاً ولطيفاً وواقعيّاً جدّاً وبأنّ القرآن تبيان لكلّ شيء، نورد خلاصته هنا.

 

إنّ العلم بالأشياء يمكن أن يحصل للناس عن طريقين

 

الأوّل: عن طريق الإدراكات الحسّيّة، أي الحواسّ الموجودة في الإنسان، كسماع خبر وشهادة شاهد ورؤية شيء أو اجتهاد وتجربة أو نحو ذلك. وهذا العلم جزئيّ ومحدود لمحدوديّة وجزئيّة معلومه؛ ولأنّ معلومه جزئيّ ومحدود ومتغيّر فهذا العالم أيضاً سيفتقر إلى الثبات، وسيكون متغيّراً يطرأ عليه الفساد والفناء، لأنّ هذا العلم إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده، معلوم أنّه قبل وجوده كان علماً آخر، وبعد فنائه وزواله سيتبيّن علم ثالث، لذا فإنّ مثل هذه العلوم التي تشكّل غالب العلوم البشريّة فاسدة ومتغيّرة ومحدودة.

 

الثاني: عن طريق العلم بأسباب وعلل وغايات الأشياء، وهذا لا يتأتّى بالإدراكات الحسّيّة، بل هو علم كلّيّ بسيط وعقليّ، لأنّ أسبابه كلّيّة، والغايات العامّة للأشياء غير محدودة ولا محصورة، وذلك لأنّ لكلّ سببٍ سبب آخر، ولذلك المسبّب سبب آخر، إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ ومسبّب الأسباب، وهذا العلم يمكن أن يناله الشخص الحائز لعلوم أصول التسبيبات ومبدأ الأسباب، وهو كلّيّ لا يتغيّر أو يزول، ويختصّ بالأفراد الذين نالوا العلم بالذات القدسيّة لواجب الوجوب وصفاته الكماليّة، وكيفيّة عمل ومأموريّة الملائكة المقرّبين المدبّرين للعالم والمسخّرين بالإرادة الإلهيّة لأغراض العالم الكلّيّة، وعرفوا كيفيّة التقدير ونزول الصور في عالم المعنى وفضاء التجرّد والإحاطة والبساطة الملكوتيّة.

 

وعلى هذا فسيتّضح لهم سلسلة العلل والمعلولات، والأسباب والمسبّبات، وكيفيّة نزول أمر الله في الحجب وشبكات عالم التقدير، وعلائق موجودات هذا العالم مع بعضها. فعلمهم محيط بالأمور الجزئيّة وبأحوال هذه الأمور والآثار واللواحق المترتّبة عليها، وهو علم ثابت ودائميّ خالٍ من التغيير والتبديل، فيصلون من الكلّيّات للجزئيّات ومن العلل للمعلومات، ومن ملكوت الأشياء للجوانب الـمُلكيّة، ويعلمون من البسائط المركّبات.

 

وهم يطّلعون على الإنسان وحالاته، وعلى مُلكه ومَلكوته، أي على طبيعته ونفسه وروحه، وما يُكملها ويُصعدها إلى عالم القدس والحرم الإلهيّ ومقام الطهارة المطلقة، كما أنّ لديهم العلم الكلّيّ بما يدنسها ويلوّثها ويُرديها، وما يسبّب شقاءها ويهوي بها إلى أظلَم العوالم، أي إلى سطح البهيميّة.

 

فيعلم جميع الأمور الجزئيّة من مرآة تلك النفس الكلّيّة، وينظر لجميع الموجودات المحدودة المتغيّرة من جانب الثبات والكلّيّة، ويشاهد من عالم الثبات تدريج الزمان وتغيير الموجودات الزمانيّة المتغيّرة.

 

وهذا كعلم الله سبحانه وعلم الأنبياء العظام والأوصياء الكرام والأولياء ذوي المجد والملائكة المقرّبين بجميع الموجودات الماضية والمستقبلة والكائنة، وهو علم حتميّ ضروريّ فعليّ لا يتجدّد بتجدّد الحوادث ولا يتكثّر بتكثّرها، بل هو علم بسيط ومجرّد وكلّيّ ومحيط، يرفل دوماً في خلعة النور والتجرّد والوحدة فيزين بها قامة الكلّيّة.

 

فمن حاز هذا العلم أدرك جيّداً معنى قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). وهنا يفهم المرء جيّداً أنّ علوم القرآن كلّيّة لا تتغيّر ولا تزول بتغيّر الزمان والمكان وتجدّد الحوادث، ولا تزول أبداً، ولا تتبدّل بنشوء المسالك والغايات وبظهور المدنيّات المختلفة أبداً، فيصدّق تصديقاً حقيقيّاً وجدانيّاً أنّه ما من أمرٍ من الأمور إلّا وقد نُظر إليه في القرآن الكريم من جانب الكلّيّة والثبات وبُيِّن ذلك تحت حكم وقانون عامّ.

 

فإن كان ذلك الأمر غير مذكور بعينه في القرآن الكريم، فمن المسلّم أنّ مقوّماته وأسبابه ومباديه وغاياته قد ذُكرت فيه. وهذه الدرجة من فهم القرآن وعجائبه وأسراره ودقائقه وأحكامه المترتّبة على الحوادث لا ينالها إلّا أفراد خاصّين تجاوز علمهم المحسوسات ووصلوا إلى العلوم الكلّيّة الحتّمية والأبديّة.

 

وفي رواية مُعَلَّي بن خُنَيْس التي ذُكرت أخيراً ورد: مَا مِن أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ، إلَّا وَلَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ. وهذه الحقيقة مشهودة بشكل واضح وبيّن، فأوّلًا أن أصل وكلّيّة كلّ أمر موجود ومذكور في القرآن؛ وثانياً أنّ علّة عدم بلوغ عقول الرجال هي عدم الوصول لذلك العلم الكلّيّ. أمّا الأولياء الخاصّون والمقرّبون للحضرة القدسيّة فلهم العلم بهذه الحقيقة «5» - انتهى حاصل كلام هذا العالم الجليل مع ما أضفناه من إيضاح.

 

وعلى هذا الأساس، فلو أراد جميع أفراد البشر، وجميع أفراد الجنّ، بل جميع الممكنات ذات الشعور الحسّيّ أن يأتوا بكتاب كالقرآن لما استطاعوا. (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). «6»

 

ويتّضح ممّا بيّنا أخيراً سرّ هذا المعنى بوضوح تامّ وسبب عجز الجنّ والإنس عن الإتيان بمثيل للقرآن، وإن اجتمعوا وتظاهروا وتعاضدوا على ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). الآية 89، من السورة 16. النحل.

(2). «تفسير الصافي» ج 1، ص 37، نقلًا عن «الكافي».

(3). «تفسير الصافي» ج 1، ص 37، نقلًا عن «الكافي».

(4). «تفسير الصافي» ج 1، ص 37، نقلًا عن «الكافي».

(5). «تفسير الصافي» ج 1، ص 37، ضمن المقدّمة السابعة من المقدمات الاثنا عشر المذكورة في مقدّمة التفسير، وحقّاً أنّ جميعها مفيد وقد حوى على مطالب قيّمة.

(6). الآية 88، من السورة 18. الإسراء.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد