قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عادل العلوي
عن الكاتب :
السيد عادل العلوي، عالم فاضل وخطيب وشاعر، ولد في السادس من شهر رمضان 1375ﻫ في الكاظمية المقدّسة بالعراق. درس أوّلاً في مسقط رأسه، قبل أن يسافر مع أفراد عائلته إلى قمّ المقدّسة عام 1391ﻫـ ويستقرّ فيها مكبًّا على الدّرس والتّدريس والتأليف، له كثير من المؤلّفات منها: دروس اليقين في معرفة أصول الدين، التقية بين الأعلام، التوبة والتائبون على ضوء القرآن والسنّة، تربية الأُسرة على ضوء القرآن والعترة، عقائد المؤمنين، وغير ذلك. تُوفّي في السابع والعشرين من ذي الحجّة 1442ﻫ في قمّ المقدّسة، ودفن في صحن حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

سر من أسرار سورة الحمد

إنّ كلّ واحد منّا بالنّسبة إلى غيره له علاقة وارتباط بأربعة: بالله عز وجل أوّلاً، وبالأسرة ثانياً، وبالمجتمع ثالثاً، وبالطبيعة رابعاً، وإنّ الله أعطى البرامج الصحیحة والكاملة للإنسان لينظّم هذه العلاقات والروابط الأربع بالنحو الصحيح والمستقيم ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، ولا شك أنه من كانت عنده الرؤية الإلهية بالنسبة إلى الكون، خلافاً للمادييّن والشيوعين في عصرنا هذا، حيث يؤمنون بالمادة العمياء والصمّاء وبأصالتها، وينكرون وجود الخالق لهذا الكون الرّحب الوسيع، فمن كانت رؤيته إلهية للكون الذي هو فيه، فإنّه من خلال رؤيته ونظره إلى الوجود والموجودات، بدواً وختماً، سينظم علاقته مع ربّه سبحانه وتعالى، كما إنّه سيقف على السُّنن الحاكمة على الكون والحياة الإنسانية سواء الحياة الطبيعية في الدنيا التي من ورائها الموت، أو الحياة الأبدية في الآخرة بلا موت، والله أعلم بخلقه من خلقه، فهو الذي يطرح ويخطّط للإنسان ويهديه إلى نماذج في مقام الأسوة والقدوة، ثم يأمره وينهاه بما فيه المصلحة التامة والمفسدة التامة التي ترجع إلى الإنسان نفسه، فإنّ الله هو الغني بالذات الحميد في الصفات جلّ جلاله.

 

والقانون والكتاب المنظم اليوم هو القرآن الكريم الذي جمع علم الأولين والآخرين، ويهدي للتي هي أقوم، لا يأتيه الباطل مطلقاً من جهاته الست، ثم جمع ما في القرآن الكريم في سورة الحمد التي هي مفتاح القرآن وفاتحة الكتاب، ومن خلالها يعرف المؤمن كيف ينظّم علاقته وارتباطه بربّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مالك يوم الدين والجزاء والحساب، ثم من خلال ذلك يعرف كيف يرتبط وينظم علاقته مع الآخرين، مع الأسرة والمجتمع والطبيعة، فكانت سورة الحمد أمّ الكتاب وفاتحته، ومنها يعرف المقصود من قوله تعالى: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إيمانه بالمبدء وبالمعاد، وما بينهما من العدل الإلهي من النبوة والإمامة، ويقف من خلال سورة الحمد المباركة أيضاً على معنى ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾، ومعنى النفس الناطقة المتألّهة، التي بلغت المودوع ما في فطرتها وإنسانيتها من حبّ الكمال المطلق، وذلك من خلال العبادة، فإنّها من فلسفة الحياة وسّر الخليقة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، وإنّ العبد ليتلون ويتشكل بصبغة الله سبحانه ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً﴾.

 

ولابدّ حينئذٍ من تجسيم العبادات بالحبّ والعشق بين العبد ومولاه، فمن طريق العبادة يصل الإنسان إلى مقام الفناء في إرادة الله والبقاء به، وتكون حياته طيبة كما أراد الله ورسوله في دعوتهما ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، فيتحّول العبد في جوهرة عبوديته إلى مقام المثل الأعلى لله سبحانه، بأن يتجلى الله فيه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. كما في الحديث القُدسي عن الله سبحانه (عبدي أطعني حتى أجعلك مَثَلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون)، فأنزل الله سورة الحمد لبيان العلاقة بين العبد وربّه، بدواً بالبسملة والحركة من البداية حتى النهاية، كسفينة نوح ﴿بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾، وأنّ الخلق كلّه إنّما هو مرآة للبسملة، كما جمع ما في الحمد في البسملة، فالله تجلّى في كتابه، كما تجلّى في خلقه بخلقه.

 

ثم سورة الحمد في قسمين: كما ورد في الحديث الشريف: قسم لله سبحانه من البسملة وإلى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثم من ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إلى ﴿وَلا الضَّالِّينَ﴾ إنّما هو قسم العبد، فالآيات الأربع الأولى، هو تخطيط وترسيم الله سبحانه لعبده، فإن الحركة والعمل بالبسملة، فإنّ كل أمرٍ ذي بالٍ لم يبدأ بالبسملة فهو أبتر، ثم بعد البسملة فإنّ الحمد كله استغراقاً للّه، سبحانه، فهو الجمال المطلق والكمال المطلق وهو رب العالمين، ربّ الناس ومَلِك الناس وإله الناس كما في سورة النّاس، وإنه الرحمن للمؤمن والكافر في الدنيا، وإنّه الرحيم بالمؤممنين في الدنيا والآخرة.

 

ثم أيها العبد أنت الذي تعبد الله تشریعاً وتكويناً وحسب، بل كلّ الموجودات في عبادة الله، فإنّه ما من شيء إلّا ويسبح بحمده وجماله، وإنّما تشرف الإنسان بعبوديته، لأنّها اختيارية، وبحريته اختار الإيمان وعبودية الله سبحانه وحده لا شريك له.

 

والعبودية تارة تكوينية، فكل شيء ساجد لله سبحانه، وأخرى تشريعية وهي باختيار الإنسان بأن يكون في ظلّ وولاية الله سبحانه أو يكون في ظل وولاية الشيطان، فيتبع خطواته ويوحى إليه ويأمره بالفحشاء والمنكر، فإمّا أن يكون منحصراً تحت قانون الله وظلّه فيتولاه ويخرجه من الظلمات إلى النور، ويكون مع ممّن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً في الصراط المستقيم، أو يكون مع الضالين والمضلّين المغضوب عليهم.

 

فالعبودية الاختيارية لله سبحانه، توجب فخر العبد وعزّته، كما في مناجاة أمير المؤمنين علي (ع) (كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزاً أن أكون لك عبداً إلهي أنت کما أحبّ فاجعلني کما تحبّ).

 

ثم بعد العبودية لله خالصاً ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فمن يرفع مشاكلنا والمحن والفتن والبلايا بعد هذا، إن هو إلّا الله سبحانه، فبه نستعين، وبما أمرنا بالاستعانة به كالصبر والصلاة ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. وابتغاء الوسيلة إليه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 

فمن يستعن بالله إذا استعان بالصبر والصلاة، وبمحمدٍ وآل محمد، فإنّه باعتبار أمر الله، فيكون من الاستعانة به، فالاستعانة بالله بالإصالة وبغيره بالتبع بإذن الله سبحانه ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، لبيان الأول، وفيه ما يدل على الثاني.

 

ثم يطلب العبد بعد ذلك من ربه برنامجاً مستحكماً ورصيناً، وسبيلاً واضحاً وبيّناً، من دون تناقض وتصادم، وأنه يكون حاله بما يرضي ربّه، ويحسن علاقته وارتباطه بالأسرة وبالمجتمع وبالطبيعة، فيطلب الهداية والإرشاد إلى صراط مستقيم له، لا عوج فيه ولا ميل إلى اليمين والشمال، بل مستقيم كالخط المستقيم، فإنّه أقرب الطرق والخطوط، فليس إلّا بحركة بدوية ثم الوسطية ثم ختم الحركة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإلى ربك المنتهى، وإليه تصير الأمور، فالله يهديه، كما يثبت أقدامه في الصراط، ثم سبحانه في سورة الحمد يعطي لهذا المفهوم العينّية والنموذجيّة والمصداقية والموضوعيّة، فيقول سبحانه ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فمن أطاع الله ورسوله، كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً في الدين والدنيا وفي صراط مستقيم. وهذا كلّه من رحمة الله الرحمانية والرحيمية ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.

 

ثم الإنسان الذي في نعمة الله منذ ولادته وإلى رحلته الأبدية، لا يسلبها الله منه، إلّا إذا هو غيّر النعمة إلى النقمة بذنوبه (واغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم) (واغفر لي الذنوب التي تُنزل النقم)، فـ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، فرب منعم عليه بسوء عمله، يبدل النعمة بالنقمة، وبالغضب والسّخط الإلهي ـ والعياذ بالله ـ وذلك بذنوبه وآثامه وعصيانه وطغيانه وظلمه وجوره وفسقه وفجوره، أو كان ذا نعمة في دنياه دون آخرته لجهله وجهالته وسفاهته، وما يستفاد من سورة الحمد أن أهل النعمة على طوائف ثلاث: الأوّلى: الذين أنعم الله عليهم، والثانية من كان من الضالين، والثالثة من كان من المغضوب عليهم.

 

فغير المغضوب عليهم والضالين، إنّما هو استثناء من أهل النّعمة، فهؤلاء أصبحوا من أهل النقمة، فإنّ من عليه النعمة تارة يشكر الله سبحانه. وأخرى يكذّبها ويشرك في عبادة ربه، ومن الأول: الأنبياء والأوصياء والشهداء والصلحاء، ومن الثاني اليهود والنصارى ومن كان على شاكلتهم من الكفار والمشركين والمنافقين، والفاسقين، إن لم يتوبوا لله توبةً نصوحاً، فهؤلاء يبدلون النعمة بالنقمة، فيكونون من المغضوب عليهم ومن الضّالين.

 

فالاستثناء في لفظة ﴿غَيْرِ﴾ في ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ليس من الصراط، بل من الذين أنعم عليهم، كما يدل عليه كسرها وجرّها وليس بالفتح. ثم الناس في برامج حياتهم يريدون القِوام في الحياة مطلقاً، أي يبغون الطريق المستقيم، كما في سورة التكوير، فإنّها في القسم الأول منها يذكر فيها علائم قيام القيامة، وإنّ أعمال البشر سوف ترى ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾، فأين تذهبون.

 

وهذا من التحوّل والسير التحولّي في سورة الحمد، وإنّ القرآن الكريم، ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، فاهدنا الصراط المستقيم، وثبتنا عليه، حتى ندخل الجنة بسلام آمنين، فالله هدى النّاس بكتابه الكريم ليقوموا بالقسط وللقوام فإنّ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾، فهذا الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، وذكرى للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم، ولا يزيد الظالمين إلّا خساراً، كالجيفة في حوض يصب عليه الماء، فإنّه ممّا يزيد في راحتها النتنة، فالاستقامة كلّ الاستقامة في القرآن الكريم، وفي السّنة المطهرة التي هي بيان القرآن، وفي منهاج العترة الطاهرة امتداداً وتجسیداً وترجمة عملیّة للنّبوة وحفظاً للرسالة، فطوبى للمصلين ولمن يقرأ الحمد بين حين وحين بالفكر والتدبّر وما فيها من الأسرار والحِكم والمعارف الربانية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد