وقد علل محمد عبد العظيم الزرقاني، كثرة التفسير عن الإمام علي عليه السّلام، واشتهاره به دون من سبقه من الخلفاء بما يأتي:
«الإمام علي عليه السّلام قد عاش بعدهم حتى كثرت حاجة الناس في زمانه إلى من يفسر لهم القرآن، وذلك من اتساع رقعة الإسلام، ودخول عجم في هذا الدين الجديد، كادت تذوب بهم خصائص العروبة، ونشأة جيل من أبناء الصحابة، كان في حاجة إلى علم الصحابة، فلا جرم كان ما نقل عن علي أكثر مما نقل عن غيره، أضف إلى ذلك ما امتاز به الإمام من خصوبة الفكر، وغزارة العلم وإشراق القلب، ثم أضف أيضًا اشتغالهم بمهام الخلافة وتصريف الحكم دونه» «1».
ومع صحة ما ذكره الزرقاني، فإن عليًّا عليه السّلام قد أعدّ إعدادًا خاصًّا من قبل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم في التفسير والقضاء والفقه وأصول الدين وعوالم العلم كافة، وقد تواترت في ذلك أحاديث جمة في عدة مناسبات من أبرزها:
قول النبي: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» وهو مجمع عليه في الصحاح فإذا قارنا بين هذا وبين قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم: «العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهن فهو فضل» «2».
خرجنا بنتيجة إحاطة الإمام علي عليه السّلام بمحكمات الكتاب، ومعالم القرآن لأن فيه الآية المحكمة والفريضة العادلة والسنة القائمة، أضف إليه روايات الإمامية أنه عدل القرآن بما يوافقهم عليه جملة من الجمهور والمعتزلة .
وقد أشار الإمام علي نفسه إلى حقيقة كونه عدلًا للقرآن، فكثيرًا ما يتحدث عن أهل البيت ويريد نفسه. قال : «وكيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمّة الحقّ، وأعلام الدين وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن» «3». وهذا التصريح منه صريح بدعوة الناس في الرجوع إليه وهو يؤكد ذلك في عدة مواطن لعل من أوضحها ما رواه المدائني قال: «خطب علي عليه السّلام فقال: «لو كسرت ليّ الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من آية في كتاب اللّه: أنزلت في سهل أو جبل إلّا وأنا عالم متى أنزلت، وفيمن أنزلت» «4» .
وقد حصر الشيخ الطوسي (ت : 460 ه) المصدر النقلي بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأهل البيت في مقدمة تفسيره فقال: «وقد روي عن النبي رواية لا يدفعها أحد أنه قال: «إنّي مخلّف الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي» «5» .
ووجه الاستدلال بالحديث يقضي بأن أهل البيت والقرآن متلازمان، وأن أحدهما متمم للآخر، وإن استخلاف النبي للقرآن والعترة يعني معرفة العترة بما في القرآن، وأن الضلال إنما يدفع تأبيدًا بالتمسك بهما .
والطوسي يوضح هذه الفكرة ويشرحها، ويضيف إليها ما يحدد به المصدر التشريعي لتفسير القرآن فيقول: «ولا ينبغي لأحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلًا، أو يقلد أحدًا من المفسرين، إلا أن يكون التأويل مجمعًا عليه، فيجب اتباعه، لمكان الإجماع، بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة، إما العقلية أو الشرعية مع إجماع عليه، أو نقل متواتر به عمن يجب اتباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبر واحد» «6».
ويشترط السيد الخوئي الرجوع إلى النبي وأهل البيت فإنهم المراجع في الدين «7».
وقد أكد هذه الحقيقة منذ عهد مبكر الإمام علي بقوله: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق بكم، أخبركم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم» «8».
ومن المهم عند السيوطي معرفة التفاسير الواردة عن الصحابة بحسب قراءة مخصوصة، وذلك أنه قدير وعنهم تفسيران في الآية الواحدة مختلفان، فيظن اختلافًا وليس باختلاف، وإنما كل تفسير على قراءة «9».
بينما يدفع ذلك ابن تيمية فيقول: «يجب أن يعلم أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بيّن لأصحابه كل ما في القرآن كما بيّن لهم ألفاظه» «10» إلا أن هذا المصدر عن الصحابة يجب أن يرصد بكثير من الحيطة والحذر، لما دسّ عن طريقهم في القرآن من قبل اليهود والنصارى، وما كثر في ذلك من الإسرائيليات والانحرافات، وما زوّر من الأحاديث التي وضعت في العصرين الأموي والعباسي، ترويجًا لمبدأ، أو دعمًا لفكرة، مما لم تصح نسبته، ولم يثبت صدوره.
ولقد كانت حاجة الصحابة إلى معرفة الأحكام تلجؤهم إلى الاستعانة بأهل الكتاب أحيانًا ممن يثقون به، ويعتمدون حسن سيرته، فيسألون، فيجاب بما لم ينزل اللّه به سلطانًا، فيحرف الكلم عن مواضعه، ولا يبلغ الحق نصابه، وقد حصل من هذا وذاك خلط كبير، وتضييع لكثير من الحقائق، صدر قسم منها جهلًا، والقسم الآخر عنادًا وتزويرًا حتى عادت المسألة ذات بال عند المسلمين، فتحرّج قوم، وتجوّز آخرون، حتى أورد السيوطي بأن ما نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب، وقف عن تصديقه وتكذيبه لما يروى أنه قال صلى اللّه عليه وآله وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» «11».
ويبدو أن هذا الحديث على فرض صحته لم يعمل به، ولم يوضع موضع التنفيذ، لأننا نشاهد بالعيان كتب التفسير قد ملئت غثاء وهراء بأقوال أهل الكتاب وأحاديثهم المدعاة، فقد يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه، وقد يحملونه ما لم يرد فيه، من تعيين أسماء وحوادث، والتنصيص على أماكن وبقاع، والتأكيد على خصائص وصفات لا مسوغ للخوض فيها، بعد أن طوى عنها القرآن كشحًا، وضرب عنها صفحًا.
ومما تقدم يمكن إجمال القول عن هذا المصدر بما يأتي: إن المصدر النقلي، ولك أن تسميه الشرعي، مصدر له أهميته الخاصة في تفسير القرآن الكريم لأنه يصدر عن صاحب الرسالة وآله وأصحابه، فما توافرت لدينا الأدلة على صحة سنده في طريقه إلى النبي، كأن يكون متواترًا، أو مجمعًا عليه مثلًا، وجب قبوله، وهو حجة علينا لا يجوز إغفاله، وما لم تصح نسبته من جهة السند أو التعارض الذي تطرح به الروايتان، أو لمخالفته سيرة المتشرعة، والعقل السوي السديد، وظواهر الكتاب، ومصادر اللغة، وطبيعة الفهم الموضوعي أو نسبة راويه للضعف أو الجهل أو الكذب أو الفسق أو السهو أو النسيان ونحو ذلك مما يلزم التجريح بالراوي، وجب رده، وعدم العمل به، واعتباره لا يمثل المراد من كلام اللّه تعالى.
وهذا المصدر يقتضي جهدًا مخصوصًا من المفسر للاضطلاع به، والتمرس على تحمل مسئوليته، كأن يكون محيطًا بأصول الدين، ومجريات كلام العرب في الحقيقة والمجاز والتمثيل، وخبيرًا بالصفات المتعلقة بذات اللّه لئلا يقع في التجسيم، وضليعًا بأصول الفقه ليستطيع الاستدلال على الأحكام من الطرق التفصيلية، وعارفًا بالناسخ والمنسوخ، ليعرف محكم الآيات مما نسخ العمل به منها، وعليه الإلمام المحيط بالحديث الشريف، وروايات أئمة أهل البيت، وما أثر عن الصحابة، مع ضبط طرق ذلك وقواعده، ليكون مكتمل الأداة أمام عباب التفسير الزاخر، وليصل إلى مغاليق التفسير، ومعالم التأويل...
بقي فنّ له أهميته القصوى في استكناه المصدر النقلي، والوقوف على أسراره وكنوزه، والتمرس في جملة أحاديثه ورواياته، ذلك هو علم الجرح والتعديل في أحوال رواة الحديث الشريف. فقد ألقت السياسة بثقلها على الرواة، فكان من يروي كاذبًا، ومن ينقل متجوزًا، ومن هو ليس ثقة في نفسه، ومن هو غير دقيق في حفظه، ومن هو فاسق في عمله، إلى جنب هؤلاء الرواة الثقات العدول، وحتى الثقة قد تحمل على الاشتباه حينًا، فكيف بزمر الوضاعين، وجمهرة الكذبة الفجرة، إن علم الجرح والتعديل الذي اضطلع به العلماء الأثبات يعطيك الصورة الواضحة عمن تروي، فهناك الضعيف، وهناك المدلّس، وهناك المجهول، وهناك المدخول في عمله، وهناك الثقة، وهناك العدل الثقة، وهناك المقبول، وهناك الموثق، وهناك الثبت الصحيح، وهناك من يروي بسند غير معتبر، وهناك من يروي عمن لم ير، وهناك من يتقوّل ويضيف، وهناك غير هنا وذاك، كل التفصيلات لمن أراد التفسير النقلي أو بالمأثور فعليه ضبط هذا الفن ضبطًا دقيقًا، لئلا يقع في الإسرائيليات والكذب والمنتحل والموضوع.
وهناك مشكلات عديدة في هذا المصدر يجب التمرس الفني والنوعي على تحاشيها، ومن أهمها الأسباب الداخلية في الرواية والأسباب الخارجية من قبل الرواة، وقد لخصهما معا سيدنا الأستاذ السيستاني دام ظله العالي، وأنا أحمل ذلك ضمن احتياجنا لهذا المصدر.
الأسباب الداخلية، وأبرزها نسخ الحديث بحديث مثله سواء أكان النسخ تبليغيًّا أو تشريعيًّا، وانقسام الحديث بحيث انقسام حكمه، فقد يكون الحكم قانونيًّا، وقد يكون الحكم ولايتيًّا، والكتمان وهو عبارة عن بيان أو إخفاء بعض الوقائع في الحديث، والاختلاف في أسلوب التبليغ نصًّا أو تعليمًا أو إفتاء أو مداراة،.. وأما الأسباب الخارجية: فهي ما قام به الرواة والمؤلفون منها:
1 - الدس في النصوص بين الزيادة والنقصان في نص الرواية.
2 - النقل بالمعنى، وما يترتب عليه من أخطاء قد تؤدي إلى صرف النص إلى معنى غير مراد.
3 - الحديث المدرج ويعني قيام بعض المؤلفين بإدراج تعليقة على الحديث في ضمن الحديث بدون فرز بينهما.
4 - التقطيع بالروايات كأن يذكر جزءًا ويترك جزءًا آخر.
5 - الخلط بين نص الحديث وحديث الغير في سياق واحد من قبل الراوي «12». واللّه العاصم من الخطأ، وهو الموفق إلى الصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الزرقاني، مناهل العرفان: 1 / 482 وما بعدها.
(2) الكليني، أصول الكافي: 1 / 32.
(3) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 6 / 373.
(4) المصدر نفسه: 6 / 136.
(5) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن: 1 / 3.
(6) الطوسي، التبيان: 1 / 6.
(7) الخوئي، البيان: 421 - 422.
(8) الكليني، الكافي: 1 / 61.
(9) السيوطي، الإتقان: 4 / 193.
(10) المصدر نفسه: 4 / 175.
(11) السيوطي، الإتقان: 4 / 178.
(12) السيد علي السيستاني، الرافد في علم الأصول، بقلم منير القطيفي: 26 - 29.
الشيخ حسين الخشن
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد علي التسخيري
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
التّأقلم مهارة تختصر طريقك للسعادة
التّواصل فنّ ورسالة
كتاب: كشف الأخطار في طبّ الأئمّة الأطهار
هل يُحشر أزواج الذين ظلموا إلى جهنَّم؟
زكي السالم: كيف تتقن فن الطرجمة والطنقرة؟
مجرد تفكيرك في أنك جائع قد يغير جهازك المناعي
مصادر تفسير القرآن الكريم (2)
كتاب (الغَيبة) لابن أبي زينب النعماني
الشك في أقسامه والموقف منه
العلاقة بين العقيدة والأخلاق والعمل