من التاريخ

الدَولَة الحَمْدَانيَّة (2)


سيف الدولة:
كانت حلب كالريشة في مهب الريح تخضع تارة للخليفة العباسي في بغداد، وتارة للاخشيديين في مصر ودمشق، وهي إلى ذلك على حدود البيزنطيين، وكان سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له: دونك الشام فلا أحد يمنعك عنها، وجهزه بألف فارس، فسار إلى حلب، ودخلها سنة 333 بدون مقاومة، ثم سار إلى دمشق وانتزعها من الأخشيديين، ونشبت بينهما حروب كان النصر فيها أولاً حليف سيف الدولة، وأقام بدمشق مدة وجبى خراجها، ثم استردها الأخشيديون منه، وأخيراً تم الصلح بينهما، وتزوج سيف الدولة فاطمة بنت الأخشيد، وتقرر أن تكون حلب وحمص وإنطاكية لسيف الدولة، ودمشق وما وراءها، حتى مصر للأخشيديين.
«وكانت علائق الأخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، واشتهر الأخشيديون، وهم عجم، بشحهم، واشتهر الحمدانيون العرب في مغالاتهم بالكرم، وكان الأخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون من الشيعة، ولذلك كثر التشيع في شمال الشام على عهدهم».
وقضى سيف الدولة حياته في حروب داخلية وخارجية، فقبل أن يفتح حلب حارب البريدي في واسط، وانتزعها منه، وفي سنة 326، غزا أرض الروم، فاستقبلوه بمائتي ألف فارس، فأعمل فيهم السيف وهزمهم، وأسر سبعين بطريقاً، وسنة 328 كان انتصاره على الروم أعظم، حيث خرج غازياً مدينة فاليقا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة أسموها هفجيج، فلما علموا بمسيره خربوا المدينة وهربوا، وظل سيف الدولة يتقدم في بلاد الروم - قبل فتحه حلب - حتى وطأ مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين.
وبعد أن فتح حلب، واستقر له الأمر كانت لا تمر سنة دون غزوة أو أكثر، قال كرد علي في الجزء الأول من خطط الشام: «غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، له وعليه، وقد حفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام، ولولاه لتقدم الروم في بلاد الشام، وربما استصفوها كلها بعد أن ضعف العباسيون. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً، وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده. فنفذت وصيته».
وأما الفتن الداخلية التي واجهها أيام ملكه في حلب فهي ثورة بني كلاب سنة 343 وبني عقيل، وبني قشير، وبني العجلان، ثم الفتنة التي قام بها رشيق النسيمي في إنطاكية سنة 354، وفتنة مروان العقيلي بحمص، وفي سنة 355 ثار دزبر الديلمي بإنطاكية. وهكذا كان سيف الدولة يغزو بلاد الروم، ثم يعود إلى مقره وعاصمته ليقضي على الفتن الداخلية.
وتوفي سيف الدولة سنة 358، وقام بعده ابنه أبو المعالي الملقب بسعد الدولة، ومات سنة 381، وتولى بعده ابنه أبو الفضائل الملقب بسعيد الدولة، ومات سنة 392، وبموته انتهت إمارة الحمدانيين التي استمرت على الموصل وحلب، وما يتبعهما من سنة 293 إلى سنة 392.


عظمة سيف الدولة:
تحدث الناس قديماً وحديثاً عن عظمة سيف الدولة، وتغنى بها الشعراء، وأشاد بها المؤرخون والأدباء في الشرق والغرب، ووضعوا في آثاره وأعماله الكتب والمجلدات، وخير ما قرأت في هذا الباب كتاب «سيف الدولة وعصر الحمدانيين» لسامي الكيالي، وقدم له إسماعيل أحمد أدهم، اقتطف من كلامهما القطعة التالية:
«سيف الدولة أحد أبطال التاريخ، وصاحب شخصية حافلة بالحياة والنشاط، وذو نواح متعددة، تتراقص على جنباتها المغامرة، والشعر والسيف والقلم، والبطولة والأدب، فهو من الشخصيات التي تثير الإعجاب، وتسترعي النظر. مر بتاريخ العرب في فترة كانت الفوضى تقتلها، فنجح في أن يلجم الفوضى، وأخرج منها نظاماً، وخلق من ضعف العرب قوة، وصمد لقوات الروم، وقاد جموع العرب يذود عن دولته بحد سيفه، وهو في هذا كله يذود عن العرب والإسلام.
قال غوستاف سيشلمبرجر: شغل سيف الدولة أذهان المؤرخين والكتاب والشعراء في القرن العاشر الميلادي، فما أن تقرأ صفحة لمؤرخ بيزنطي، أو قطعة لكاتب من كتاب ذلك العصر، أو قصيدة من قصائد شاعر من شعراء العرب أو اليونان، حتى يستهويك الوصف والحديث عنه.
لقد أقسم مؤرخ زار حلب في عصر سيف الدولة أن قصور الخلفاء في بغداد، وقصور ملوك الروم في القسطنطينية كانت أقل بهاء من قصور سيف الدولة، وأن الفنون على تباين أنواعها كانت مضطهدة في عاصمة المسيحية، ولكنها كانت تنعم بتسامح كبير في عاصمة الحمدانيين، وكان المصورون والمثالون من الروم يهربون من قيصر إلى سيف الدولة، فيستقبلهم، ويكرمهم ويشجعهم، ويستفيد من عبقرياتهم».
وقال بروكلمن في «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص 91 ج 2 : «ولئن كان سيف الدولة مديناً بما تم له من شهرة عريضة لنضاله الموفق ضد الروم في المحل الأول فليس من شك في أنه مدين بذلك في المحل الثاني لعطفه على الفنون والعلوم، ورعايته لها».
وبالتالي، فإن مدينة حلب في عهد سيف الدولة جمعت أكابر رجال ذلك العصر على اختلاف بلدانهم وتباين ثقافتهم، كالفارابي والشريف أبي إبراهيم جد بني زهرة، وابن نباتة والمتنبي والصنوبري وابن خالويه وابن جني والبكتمري والنامي وكشاجم وابن أبي الفياض وأبي الفرج العجلي، وكثيرين غيرهم من القضاة والنحويين والأدباء والشعراء والفنانين العرب وغير العرب.


الحمدانيون والتشيع:
انتشر التشيع، وارتفع شأنه في الموصل وحلب، وما إليهما في عهد الحمدانيين، واشتد بهم أزر الشيعة في العراق، قال آدم متز في «الحضارة الإسلامية»: «وكان الحمدانيون أول أسرة تدخل في أمور بغداد».
وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة»:
«ارتفع شأن التشيع في سورية أيام سيف الدولة، وانتشق أهله الهواء الطلق بعد أن حبسه عنهم أرباب السلطات المتعاقبة. فكانت سورية أيام الحمدانيين مكتظة بالشيعة. وإذا دخلت المسجد الأموي الرفيع بناية، والمشيد عمارة، وتوسطته واقفاً تحت قبته، فارفع رأسك لتنظر اسم علي والحسن والحسين في باطن القبة، فأين اسم معاوية ويزيد وملوك آل مروان الذين رفعوا بناء ذلك المسجد؟!».
وقال كرد علي في المجلد السادس من خطط الشام ص 258:
«كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح - في عهد سيف الدولة - فصار فيها شيعة وشافعية، وأتى صلاح الدين، وخلفاؤه فيها على التشيع، كما أتى عليه في مصر، وكان المؤذن في جوامع الشهباء يؤذن بحي على خير العمل، وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع، فلم يوفقوا إلى ذلك، وكان حكم بني حمدان، وهم شيعة من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الأئمة الاثني عشر، وقد خرب الآن.
ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس، فقال: «للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنييّن بها، وقد عموا البلاد بمذاهبهم».
وحين أراد صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على حلب، استنجد الوالي بأهلها، وطلب منهم العون، وأن يعبئوا أنفسهم تعبئة عامة، فاشترط عليه الشيعة إن أجابوه أن يعيد في الأذان حيّ على خير العمل في جميع المساجد، وينادي باسم الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز، ويكبر على الميت خمس تكبيرات، ويفوض أمر العقود والأنكحة لشيخ الشيعة أبي المكارم حمزة بن زهرة، فقبل الوالي ذلك كله.
إن الحمدانيين لم يكرهوا أحداً على التشيع، ولم يغروه بالمال والمناصب، ولم يؤلفوا الهيئات والمنظمات للدعاية، بل تركوا الناس يختارون لأنفسهم ما يشاؤون، ويعتقدون ما يريدون، فانبرى الدعاة المخلصون، وأعلنوا الحق، فآمن به من آمن، حيث لا ضغط ولا إكره، على عكس العباسيين والأمويين، وصلاح الدين.
لقد حمل الأيوبي معه إلى مصر وسورية تياراً هائلاً من التعصب الأعمى - وكل تعصب هو أعمى - كان له أسوأ الأثر في حياة المسلمين، وما زالوا يعانون منه، حتى اليوم أما الحمدانيون فقد كانوا أصحاء في عقولهم، كما كانوا على حق في دينهم، لذا تسامحوا، وتركوا للناس حرية القول والتفكير مما جعلهم ملجأ وملاذاً للعلماء والفلاسفة والأدباء ورجال الفكر من جميع الأديان والمذاهب، حتى أن رجال الفن من الروم كانوا يهربون من مليكهم قيصر إلى سيف الدولة، حيث يجدون عنده ما لم يجدوه في بلادهم وعند أبناء دينهم ولغتهم. من هنا ترك لنا عصر الحمدانيين هذه الآثار والكنوز.
ولو افترض أن صلاح الدين الأيوبي كان على حق في تسننه، وأن الشيعة كانوا على ضلال في تشيعهم فأي مبرر له في قتلهم واستئصالهم؟ إن قوانين الدول المتحضرة تنص على أن لكل إنسان الحق في إعلان آرائه ومعتقداته، بل والترويج لها ما دام لا يتعدى على حق غيره. وهؤلاء المسلمون في كل مكان يعتقدون أن العين بالعين والسن بالسن، وقوانين دولتهم تنص على خلاف ذلك، ولكنها لا تعاقب أحداً منهم، ما دام لم يسمل عين أحد، أو يكسر سن أحد.
لقد أراد صلاح الدين الأيوبي، ومن على شاكلته أن يقضي على الشيعة والتشيع، ويأبى اللّه إلا أن يتم نور آل الرسول المنبثق عن نور اللّه بالذات.


شبكة المعارف الإسلامية

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد