الشيخ محمد هادي معرفة ..
نص الشبهة:
قالوا : لم يَعهد من تأريخ مصر القديمة أنّ ملوكها استوزَروا أجانب في سُلطانهم ، فمَن هذا المَلِك الذي استوزرَ يوسف العِبراني لإدارة شؤون الاقتصاد في البلاد ؟
الجواب:
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ... ﴾ 1( أي أجعله من خاصّتي ) ﴿ ... فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ 2، فأصبح يوسف عزيز مصر !
وتَحذلق بعضهم القول بعدم معهوديّة التوزير من أبناء اليهود 3 ولم يدرِ المسكين أنّ يوسف سَبق اليهوديّة بقرون ! وكان الذي خوّله إدارة شؤون الاقتصاد من المُلوك الرُعاة ( الهِكسوس ) وهم أجانب ومِن جالية الشعوب الهنديّة الأُوروبيّة تغلّبوا على الشعب المصري وحكموا البلاد قسراً ، والذي بدأ حوالي سنة 1800 ق . م ، وهو العهد الذي يُمثّل الأُسرتَين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ثُمّ السابعة عشرة في الشمال حتّى عام 1570 ق . م ، ليقوم ( أحمس الأَوّل ) في وجههم ويَطردهم ويُؤسّس الدولة الحديثة الأُسرات من الثامنة عشرة إلى آخر العشرين ، وكان إذ ذاك أوان خروج العِبرانيّين من مصر على عهد موسى وفرعون 4 .
﴿ ... عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ 5
ويسترسل ( نولدكه ) في توهّماته عن القرآن ، ليزعم أنّ هذا التعبير بشأن صعيد مصر الذي تشح فيه الأمطار يَنمّ عن جهلٍ بموضع هذا البلد الذي تعود خُصوبته إلى فيضان النيل لا الأمطار ، جاء في فقرةٍ من كتابه ( ...Sketches ص30 ـ 31 ) حول هامان ومريم : ( بالإضافة إلى هذا التصوّر غير المعقول ، يوجد تحويرات مزاجيّة شتّى ، بعضها يدعو للسُخرية ويُنسب إلى محمّدٍ نفسه ، والمثال على جهله لكلّ الأُمور خارج الجزيرة هو جَعْلُ الخُصوبة في مصر ـ التي تشحّ فيها الأمطار ـ مرهونةً بالأمطار وليس بفيضان النيل ) 6 .
هذا الانتقاد في غاية الغَباء وينمّ عن جهل ( نولدكه ) ـ المستشرق ـ للّغة العربيّة وللشؤون المصريّة بالذات .
لقد جاء في الآية التي يستشهد بها ما يلي : ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ 5.
وكلمة ( يُغاث ) تَحتمل أن تكون من ( الغَوث ) ـ وهو النُصرة ـ أو مِن ( الغيث ) أي المطر ، ﴿ ... فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ... ﴾ 7 أي استَنصَره ؛ ومِن ثَمّ جاء في تفسير الآية ﴿ ... عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ... ﴾ 5 أي يُنْجى الناسُ من الجَدب ومحنة القحط ، قالوا : ويكون من قولهم : أغاثه اللّه ، إذا أَنقذه من كَربٍ أو غمّ ، يُنقَذُ الناس فيه من كَرب الجَدب ، وقوله ﴿ ... وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ 5أي يَعصرون السِّمسم دُهناً والعِنب خمراً والزيتون زيتاً ، وهذا يَدلّ على ذهاب الجَدب وحصول الخِصب ووفور الخير 8 .
أمّا لو أُخذت من ( الغيث ) أي المطر فيكون المعنى : فيه يُمْطَرون ، غير أنّ بلاد مصر العُليا تَنعم بغزارة الأمطار أربعة أشهر متتالية في فصل الشتاء ، فالمصريّون الّذين يعيشون في الصعيد في الدلتا يعلمون جيّداً أنّ الأمطار تتساقط بغزارة خلال فصل الشتاء أي خلال أربعة أشهر ( من ديسمبر إلى مارس ) ، وأنّ زراعة القمح والبِرس والشعير والفول وأمثالها تعتمد أساساً على الأمطار الّتي تتساقط هذه الفترة ، الأمر الذي يجهله أمثال ( نولدكه ) مِن المتخصّصين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة ، وهو لم تطأ قدمه بعدُ البلدان الإسلاميّة ولم يغادر أُوربا طَوال عمره ( 1836 ـ 1931م ) ، فلا غَرْوَ أن يخطأ ( نولدكه ) خطأً مزدوجاً ، فهو لم يَفهم النصّ العربي للآية ، ثُمّ إنّه يؤكّد أنّ المطر يكاد يَنعدم في مصر ، وأهلُها لم يشعروا أبداً باحتياجهم له ! وهو الخطأ الذي لا يقع فيه أحد من صبية مصر ! على حدّ تعبير الأُستاذ البدوي 9 .
والعجب أنّه لم يَطّلع على ما كَتبه سال Sale في تَرجمة القرآن التي أَنجزها وانتشرت خلال القرن الثامن عشر ، إنّه يترجم الآية هكذا :
Then shall there come, after this a year wherein men shall have plenty of rain , end wherein they shall press wine and oil .
ونجده في ملاحظةٍ سجّلها في أسفل الصفحة يقول علينا أن نُفنّد ما كَتَبه بعض المؤلّفين القدامى ، فلقد كانت تمطر عادةً في الشتاء خاصّة في الوجه البحري ، وقد لُوحظ الثلج في الإسكندريّة على نقيض ما يزعمه ( Seneca ) صراحةً ، فعلاً تُصبح الأمطار أكثر ندرةً في الوجه القبلي في اتجاه شلاّلات النيل ، وعلى أيّة حالٍ فإنّنا نفترض أنّ الأمطار التي ذُكرت هنا ـ في الآية ـ قُصد بها تلك التي تَسقط في ( إثيوبيا ) وتُسبّب ارتفاع منسوب النيل 10 .
فيا تُرى كيف لم يَطّلع ( نولدكه ) على هذه الترجمة وهذه المُلاحظة التي سجّلها ( سال ) وكانت في متناوله ؟! 11 .
ـــــ
1. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 54، الصفحة: 242.
2. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 54 و 55، الصفحة: 242.
3. شجاع الدين شفا في كتابه ( تولّدي ديكر ) ، ص286 .
4. راجع : الموسوعة المصريّة ( تأريخ مصر القديمة ) ، مجلّد أوّل ، الجزء الأوّل ، ص38 ـ 42 ، وقاموس الكتاب المقدّس ، ص968 و969 ، وقصص الأنبياء للنجّار ، ص149 .
5. a. b. c. d. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 49، الصفحة: 241.
6. راجع : الدفاع عن القرآن ، ص186 .
7. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 15، الصفحة: 387.
8. راجع : التفسير الكبير ، ج18 ، ص151 .
9. معدّل الأمطار التي تسقط في الإسكندريّة وشمال الدلتا يُقدّر بـ 206 ملم ، وفي القاهرة 33 ملم ، انظر: Suggate.l.s. Africa , London , Harap , 1974 ( الدفاع عن القرآن ، ص187 ـ 188) .
10. The Koran , translated into Englisch from the original Arabic by George Sale هذه الترجمة صَدرت عام 1734 ( الدفاع عن القرآن ، ص187 ) .
11. شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم ، تأليف : الأُستاذ محمّد هادي معرفة ، تحقيق : مؤسّسة التمهيد ـ قم المقدّسة ، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ص 363 ـ 366 .
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
النّسخة الألمانيّة من كتاب الجشي (ألواح الطّين في كهف نيتشه)
الشّيخ صالح آل إبراهيم: الاحتياجات الزّوجيّة
إشارة وتواصل.. بالأنامل
الشيخ عبد الجليل البن سعد: الحياة عدو وصديق
الشيخ عبد الجليل البن سعد: حبّ الله ورسوله
الشيخ عبد الجليل بن سعد: الدور المنسي في التعاون
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق