من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

النبي شعيب (1)

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي .. 

مدين بلدة شعيب...
قوم شعيب وأهل مدين، أولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام فحسب، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.
في بداية القصة يقول القرآن الكريم ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ إن نسب شعيب ينتهي إلى إبراهيم (ع) كما تذكر التواريخ.
و (مدين) على وزن (مريم) اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.
ويطلق اليوم على مدينة (مدين) اسم (معّان) ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا أسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.
وورد في التوراة أيضًا اسم (مديان) ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي أن إطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج.


المفاسد الاقتصادية
هذا النبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه - كأي نبي في أسلوبه وطريقته في بداية الدعوة - دعاهم أولاًّ إلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو (التوحيد) وقال: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
ثم أشار إلى أحد المفاسد الاقتصادية التي هي من إفرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذٍ جدًا، وقال: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ﴾.
ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في أعمالهم ونموذجًا للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.
إن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حسّاسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطق أُخَر.
ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في أثناء الطريق إلى أمور كثيرة ... وطالما يسيء أهل المنطقة الاستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعه بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات  بأعلى ثمن (وينبغي الالتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة)...
وربما تذرعوا عند شراء البضاعة فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والاستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأمور على كل حال ومضطر إليها، فلا بد من أن يقبلها ويسكت عليها!...
وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم، فإن أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين، وليسوا بأحسن حظًا من أصحاب القوافل أيضًا.
فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤه تتعين بحسب رغبة الكَسَبَة هؤلاء. 
والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!
ثم يؤكد شعيب (ع) على نظامهم الاقتصادي، فإذا كان قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إلى إيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾.
ثم يخطو خطوة أوسع ويقول: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾.
ونجد في نهاية الآية أن شعيبًا يخطو خطوة أُخرى وأوسع ويقول لقومه: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الإنسان والاعتداء على حقوق الآخرين، والفساد يقع في الإخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعية، ويقع أيضًا ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيرًا يقع الفساد على الحيثيات بالاعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.
ثم يخبرهم أن زيادة الثروة - التي تصل إلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين - ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.


المنطق الواهي
والآن فلنرَ ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السماوي (شعيب).
فيما إنهم كانوا يتصورون أن عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح، ودلالة على أصالة ثقافتهم، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق قالوا: ﴿يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ ونترك حريتنا في التصرّف بأموالنا فلا نستطيع الاستفادة منها ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء﴾ إن هذا بعيد منك ﴿إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾
عاقبة الحمقى
لما رأى قوم شعيب الظالمون - أنهم لا يملكون دليلاً ليواجهوا به منطقه المتين... ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيلٍ من التهم والأكاذيب.

فالتهمة الأولى هي ما يلصقها الجبابرة دائمًا والمجرمون بالأنبياء وهي السحر فاتهموه بها ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ ولا يُرى في كلامك ما هو منطقي!! وتظن أنك بهذا الكلام تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء!!
ثم ما الفارق بينك وبيننا لنتبعك؟! ولا مزيّة لك علينا ﴿وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلاً انتهازيًا، وتارةً يدعونه مجنونًا من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كان نبيًّا ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ حيث كنت تهددنا دائمًا بهذا اللون من العذاب.
وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد