من التاريخ

العزاء الحسیني فی حیاة المسلمین (1)

 

من الآثار الواضحة لنهضة الإمام الحسين عليه السّلام في مسيرة التاريخ.. تلكم الثورات العلوية المتعاقبة التي بدأت من أواخر الحكم الأموي واستمرّت خلال الحكم العبّاسي. وتعدّ هذه الثورات صدىً طبيعياً لنهضة كربلاء المقدسة الدامية. وقد استمر العلَويّون في ثوراتهم وانتفاضاتهم، مُصرّين على أصل أنّ الإمامة والخلافة حقّهم الطبيعي المغتصَب.
وأوّل ثائر علَوي تحرّك بعد واقعة كربلاء: زيد بن عليّ حفيد الإمام الحسين عليه السّلام، فقد قاد زيد ثورته سنة 122 هجريّة واستشهد، ثمّ أعقبه في الثورة ابنُه يحيى الذي ثار في خراسان سنة 126 هـ واستُشهد فيها، وتلا ذلك وقوع السلطة في أيدي بني هاشم، ثمّ صادر العبّاسيون هذه الثورة في مؤامرة كبيرة وسيطروا على مقاليد الحكم. ثمّ إنّ العلويّون استمرّوا في ثوراتهم، فكانت مواجهتهم هذه المرة مع السلطة العبّاسية.
وقد انقسم العلويون في هذه المرحلة إلى طائفتين: الأولى طائفة الحسنيين، والثانية طائفة الحسينيين، واستند الحسنيّون في ثوراتهم إلى شهادة القاسم وعبدالله ابنَي الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام في كربلاء، أمّا الحسينيّون فاستندوا ـ كما هو واضح ـ إلى شهادة الإمام الحسين عليه السّلام في واقعة الطف الأليمة.
وبعد وصول العبّاسيين إلى الحكم ظهرت الفرقة الزيديّة، حيث قاد الحسنيّون الثورات ضد الحكم العبّاسي، بينما التزم الحسينيّون ـ أو بتعبير أدقّ معظم الحسينيين ـ بالنهج الذي اختطّه أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، فوجّهوا أغلب اهتمامهم إلى البنية الأساسية للفرد والمجتمع بما فيها النشاطات الفكريّة والفقهيّة والعقائدية.. التي هي العماد لكل تغيير حقيقي.
وعلى أيّة حال.. فقد استمرت الحركة الزيديّة، وكان من أبرز سماتها وخصائصها ـ قياساً إلى الحركة الإماميّة ـ الدخول في النهج الثوري الذي كان لا يخوض فيه أتباع المذهب الإماميّ في الظاهر، على أقلّ تقدير.

ومطالعة تاريخ علماء القرن الخامس الهجري تظهر بوضوح أنّ علماء الحنفيّة والمعتزلة والزيدية قد اتّصلوا ببعضهم وتقاربوا فيما بينهم. أمّا السبب الذي يقف وراء تقارب الزيديّة والحنفيّة والمعتزلة، فكامنٌ في التغييرات الفكريّة والثورية التي حدثت في أواسط القرن الهجري الثاني، حيث اندلعت ثورتان للزيديّة في المدينة والبصرة خلال سنتَي 145 و146 هـ، قاد إحداهما محمّد بن عبدالله المعروف بالنفس الزكيّة وقاد الأُخرى أخوه إبراهيم.
وقد أفتى كثير من فقهاء العراق ـ بما فيهم أبو حنيفة ـ بوجوب خروج الناس مع إبراهيم ومتابعته، وكان منهم مَن اشترك مع إبراهيم وقُتل، كما أبدى بعض قادة المعتزلة تأييدهم لثورة إبراهيم، وأدى هذا التقارب بالتدريج إلى رواج الفقه الحنفي والكلام المعتزلي في أوساط الزيديّة، وقد دام هذا الأمر ـ الذي يحتاج إلى بحث تاريخي أعمق ـ إلى القرن الهجري السابع.
ومن أوضح النماذج على هذا التقارب، أنّ الموفّق بن أحمد الخوارزمي الحنفي (ت 568 هـ) كان حنفيّاً ومعتزليّاً وزيديّاً في الوقت نفسه. وقد ألّف الخوارزمي ـ الذي عُرف بخطيب خوارزم ـ كتاباً في النصف الأول من القرن السادس الهجري سمّاه «مقتل الحسين» وكتاب «مناقب علي بن أبي طالب عليه السّلام».


حدود التشيّع والتسنّن في القرن الثالث فصاعداً
ينبغي القول ـ بلحاظ التاريخ ـ أنّ طائفة من العلماء المسلمين قد ظهرت في البلاد الإسلاميّة ـ وفي العراق خاصّة ـ سَعَت جاهدةً إلى نشر أحاديث فضائل الإمام عليّ عليه السّلام وسائر أهل البيت عليهم السّلام، في مقابل شيوع المذهب العثماني في القرون الإسلاميّة الأولى، الذي كان أفراده لا يعترفون بشرعيّة خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. وهؤلاء العلماء قد نُبِزوا في كتب أهل السنة بأوصاف من قبيل «فيه تَشيُّع» بسبب نقلهم روايات فضائل أهل البيت عليهم السّلام، على الرغم من قيام كثير من علماء أهل السنّة ومحدّثيهم البارزين ـ من أمثال البخاري ومسلم ـ بنقل كثير من الأحاديث في فضائل أهل البيت عليهم السّلام.
وقد هاجم ابن قُتَيبة ـ وهو من علماء أواسط القرن الثالث الهجري ـ في كتابه الصغير « الاختلاف في اللفظ » أهلَ الحديث في عصره (أي أتباع المذهب العثماني) الذين أصروا على إنكار أحاديث فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام.
ونظرة سريعة إلى كتاب « ميزان الاعتدال » لمؤلّفه شمس الدين الذهبي كافية لإظهار أن مئات من المحدّثين الأعلام قد اتُّهِموا بالتشيّع بسبب نقلهم فضائل أهل البيت عليهم السّلام!
ويُعدّ العالم الكبير لأهل الحديث: أحمد بن حنبل، نقطة انعطاف في مسيرة إفراط أهل الحديث، حيث خطا خطواتٍ كبيرةً في مسيرة الإقرار بفضائل الإمام عليّ عليه السّلام وتثبيت موقعه لدى أهل السنّة بعنوان الخليفة الرابع، فروى في كتابه « المسند » روايات جمّة في فضائل أهل البيت عليهم السّلام، منها الروايات التي رأينا صحيحَي البخاري ومسلم وسواهما من صحاح السنّة وسُننهم تُعرض عن ذكرها، وهذا ممّا يُؤسف له حقّاً.

ولم يكتفِ أحمد برواية فضائل أهل البيت عليهم السّلام في كتابه المسند، بل أضاف إليها عدداً آخر رواه في كتابه « فضائل الصحابة »، ومن تلك الروايات حديث الغدير الذي رواه بطرق متعدّدة، وبذلك ساهم أحمد في تعديل مذهب العثمانيّة.
وخفّ غلواء حنابلة بغداد بعد أحمد بن حنبل، وخفّت شدّة تعصّبهم، فعاشوا في بغداد في سلام مع الشيعة في ظلّ جوّ شيعي ساعد على تكوينه وصول دولة ( آل بُوَيه ) إلى سدّة الحكم. وعلى الرغم من التعصّب الشديد الذي أبداه الحنابلة خلال مدّة مائة وخمسين عاماً، حيث كان يصطدمون بالشيعة خلال مراسم العزاء في عاشوراء، لكنّ نشر فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام ـ الذي بدأه أحمد بن حنبل ـ خفّف إلى حدٍّ ما من تعصّبهم. وقد قابل الحنابلة في أواخر القرن الثالث المؤرّخ الإسلامي الكبير محمّد بن جرير الطبري مقابلةً عنيفة، بسبب جمعه طرق حديث الغدير، لكنّهم أخذوا يبتعدون عن التعصّب تدريجاً، فحلّ بينهم وبين الشيعة نوع من المسالمة خلال القرن الهجري الخامس.
وعلى أيّة حال، فقد تسارع في القرن السادس ـ مع خفّة حدّة النزاعات ـ تأليف الكتب في أهل البيت عليهم السّلام، فظهر للعيان أكثر من ذي قبل آثارُ التعديل في مذهب أهل السنّة تجاه أئمّة أهل البيت عليهم السّلام. وإنّ مجيء سِبط ابن الجَوزي ـ وهو حفيد عبدالرحمن بن الجوزي الحنبلي المتعصّب ـ دلالة على حدوث التعديل لدى حنابلة بغداد، إذ أنّ كتاب « تذكرة خواصّ الأمّة » الذي ألّفه سبط ابن الجوزي أفضل شاهد على حدوث التعادل في التسنن المتطرّف.


كما أنّ هناك عالماً آخر ينتمي إلى القرن السادس الهجري، هو أبو الفضل يحيى بن سلامة الحَصكفي ( ت 551 أو 553 هـ )، حيث نقل ابن طولون قصيدة للحصكفي في مدح الأئمّة الاثني عشر قال فيها: 
حَيدرةٌ والحَـسَنـانِ بَعدَهُ    ثـُمّ عـليٌّ وابنُه محمّـدُ
وجعفرُ الصادقُ وابنُ جعفرٍ    موسى، ويَتلوه عليُّ السيّدُ
أعني الرِّضا، ثمّ ابنه محمّدٌ    ثـمّ عليٌّ وابـنُه المُسـَدَّرُ
الحسـنُ التالي ويتلو تِلْوَهُ    محـمّدُ بنُ الحسنِ المعْتَقدُ
وللحصكفي قصيدة في رثاء سيّد الشهداء الحسين عليه السّلام يقول فيها:
ومـصرعُ الطـفِّ فلا أذكُرُهُ    ففي الحَشا منه لَهـيـبٌ يَقِـدُ
يَرى الفراتَ ابنُ الرسولِ ظامياً    يَلقى الرَّدى، وابنُ الدعيّ بَرِدُ!
يا أهلَ بيت المصطفى يا عُدّتي    ومَـن عـلى حُبِّـهِمُ أعتمـدُ
والشافـعيُّ مَذهَـبي مـذهبُهُ    لأنّـه فـي قـولـه مُـؤيّـدُ


ولم ينحصر التقارب مع الشيعة في فئة خاصّة من أهل السنّة دون سواها، فقد انبرى من بين الشافعين محمّد بن طلحة الشافعي ( ت 652 هـ ) فألّف كتاب « مطالب السَّؤول في مناقب آل الرسول » وتطرّق فيه إلى مناقب أهل البيت عليهم السّلام مفصّلاً. ثمّ ألّف محمّد بن يوسف بن محمد اللگنجي الشافعي كتاب « كفاية الطالب في مناقب آل أبي طالب » في فضائل أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السّلام.
وألّف أبو محمّد عبدالرزاق بن عبدالله بن أبي بكر عزّالدين الأربلّي ـ وهو من الحنابلة ـ كتاباً في فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام بأمرٍ من بدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل ذي المذهب الإمامي، وقد نقل مؤلف « كشف الغمّة » في كتابه نصوصاً كثيرة من هذا الكتاب في مواضع عديدة.
وألّف أبو محمّد عبدالعزيز بن محمّد بن مبارك الحنبلي الجُنابذي ( ت 611 هـ ) كتاب « معالم العترة النبويّة ومعارف أهل البيت الفاطميّة العلويّة » في حياة الأئمّة (إلى الإمام الحادي عشر عليه السّلام).
وتطرّق ابن خلِّكان الشافعي في « وَفَيات الأعيان » إلى حياة أئمة أهل البيت عليهم السّلام، حيث إنّ نفس الاتجاه إلى ذِكر أئمّة الشيعة دليل على حضور الأئمّة في الذهنيّة السائدة خلال القرن السادس.
وألّف حمد الله المستوفي ( ت بعد سنة 750 هـ ) في القرن الهجري الثامن « تاريخ گزيده »، تطرّق فيه إلى ذكر الخلفاء الاوائل، ثمّ عرّج إلى ذِكر الإمام عليّ عليه السّلام، ثمّ الإمام المجتبى عليه السّلام بعنوان أمير المؤمنين، حافدِ رسول ربّ العالمين: الإمام الحسن بن عليّ المرتضى، ثمّ أنشأ فصلاً تحت عنوان « في ذكر جميع الأئمّة المعصومين رضوان الله عليهم أجمعين، الذين كانوا حجّة الحقّ على الخَلْق. ومدّة إمامتهم من 4 صفر سنة تسع وأربعين إلى شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين تعادل 215 سنة و 7 أشهر ». وأضاف: والأئمّة المعصومون لم يُستخلفوا، ولكن لاستحقاقهم الخلافة فإننا نتبرّك بذكر أحوالهم على سبيل الايجاز ».


ثمّ ألف ابن الصبّاغ المالكي ( 784 ـ 855 هـ ) كتاب « الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة »، وتبعه في القرن العاشر شمس الدين محمّد بن طولون (ت 953 هـ) فألّف كتاب « الشذرات الذهبية في تراجم الأئمّة الاثني عشرية عند الإماميّة ». وابن طولون أحد العلماء المهتمّين بالتصوّف والعرفان. وله شعر أنشده في وصف الأئمّة الاثني عشر ـ بعد أن تطرّق إلى ذِكر حياتهم نقلاً عن المصادر المعتبرة ـ يقول فيه:

عـليـكَ بـالأئـمّة الإثنَي عَشَرْ    مِن آلِ بيتِ المصطفى خيرِ البَشَرْ
أبـو تُـرابٍ، حَـسَنٌ، حُـسينُ    وبُـغْـضُ زَيْـنِ العـابدينَ شَيْنُ
محـمّدُ البـاقرُ كَـمْ عِلـمٍ دَرى    والصادقُ ادعُ جَعفراً بَين الورى
مـوسى هـو الكاظِمُ وابنُهُ عليّ    لَقِّبْهُ بـالـرضـا وقَـدْرُهُ عـليّ
محـمّدُ النقيُّ قَـلبُـه مَعـمـورُ    عـليٌّ التّـَقـيُّ دُرُّهُ مـَنـثـورُ
والعسكريُّ الحَـسَنُ الـمُطهـَّرُ    محـمّدُ المـهديّ سَوفَ يَـظهَـرُ


وينبغي أن نُضيف إلى قائمة الكتب المؤلّفة السابقة، كتاب «الإتحاف بحُبّ الأشراف» للشَّبراوي ( ت 1172 هـ )، و « نور الأبصار » للشبلنجي، و « ينابيع المودّة » للقندوزي الحنفي ( ت 1294 هـ ).
ومن الآثار الباقية من القرن الهجري العاشر، كتاب باسم « كُنْه الأخبار » فيه ذِكر الخلفاء والأئمّة الاثني عشر؛ كما ألّف درويش محمّد الكربلائي في النصف الأوّل من القرن العاشر الهجري كتاباً أسماه «روضات الجِنان وجنّات الجَنان » تطرّق فيه بالتفصيل ـ مع كَونه على عقائد أهل السنّة ـ إلى حياة أئمّة الشيعة، نقل معظمه عن كتاب « فصل الخطاب » للخواجة محمّد بارسا؛ وألّف محمد عليم بن محمد موسى إله آبادي كتاب « غاية الهمّة في ذِكر الصحابة والأئمّة » في حياة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله والخلفاء الأوائل وأئمّة الشيعة عليهم السّلام.
ويستلفت نظرنا كتاب « وسيلة الخادم إلى المخدوم » في شرح الصلوات على المعصومين الأربعة عشر، لفضل الله بن روزبهان الخنجي ( ت 927 هـ )، وهو أحد العلماء الإيرانيين المشهورين آنذاك، تطرّق فيه إلى حياة المعصومين الأربعة عشر، وخصّص جزءاً من كتابه في حياة الإمام الحسين عليه السّلام وذِكر وقائع كربلاء.


إقامة أهل السنّة مراسم العزاء (نقلاً عن عبدالجليل الرازي في القرن الهجري السادس)
بعد موضوع فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام الذي تناقلته الروايات الجمّة المتكاثرة، التي يضطرّ كلّ محدّث إلى الإذعان بفضائله عليه السّلام ـ هو واقعة كربلاء التي أمكنها أن تقوم بدور هام في تقريب أهل السنّة إلى التشيّع. وقد ألّف في عصرنا هذا كاتب من شمال افريقية اسمه إدريس الحسيني كتاباً عنوان « لقد شيّعني الحسين »، بيّن فيه أنّ لواقعة كربلاء التأثيرَ الكبير باعتبارها حدثاً تاريخيّاً هامّاً جسّد مظلوميّة أهل البيت وظُلم أعدائهم.
وقد دخلت ظاهرة إقامة مراسم العزاء التي كان الشيعة يلتزمون بها تبعاً لأوامر أئمتهم عليهم السّلام إلى المجتمعات السنّيّة تدريجاً، فقد كان حبّ السادة ( الشرفاء ) من نسل النبيّ صلّى الله عليه وآله أصلاً إسلامياً سار عليه أهل السنّة، فلمّا تبيّن لهم تفاصيل استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام على يد يزيد وبتلك الصورة الفجيعة، أثار بطبيعة الحال ـ عواطفهم تجاه الإمام الحسين عليه السّلام بصورة خاصّة، وتجاه أهل البيت عليه السّلام بصورة عامة.
وكان ذلك بداية رسوخ وتعمّق محبّة أهل البيت عليهم السّلام في أوساط أهل السنّة، وبداية رغبتهم في إقامة مراسم العزاء، حتّى إذا حلّ القرن الهجري السادس كانت تلك البدايات قد تحوّلت إلى تيّار طبيعي في المجتمع السنيّ.
وتُشير الآثار الفارسيّة المؤلّفة خلال الفترة الواقعة بين القرنين السابع والعاشر للهجرة إلى هذه النزعة، حيث تناقل أكثر مؤلّفي السنّة في كتبهم ( المؤلّفة في تاريخ الإسلام ) واقعة كربلاء نقلاً عن كتاب الفتوح لابن أعثم، وعلّقوا عليها تعليقات تبيّن انحيازهم الكامل إلى صفّ الإمام الحسين عليه السّلام.
وقد نقل عبدالجليل الرازي القزويني في كتابه « النقض » الذي ألّفه في حدود سنة 560 هـ معلومات تاريخية قيّمة عن تاريخ إقامة أهل السنّة مراسم العزاء على الإمام الحسين عليه السّلام، فقد كتب في ردّه على كاتب سنّي انتقد الشيعة بأنهم: « يُظهرون الجزعَ يوم عاشوراء، ويقيمون العزاء، ويُجدّدون مصاب شهداء كربلاء على المنابر، فيخلع علماؤهم عمائمهم، ويشقّ العوامُّ جُيوبَهم، وتَخمِش نساؤهم وجوههنّ وينتحبن بالبكاء »، كتب يقول ( ما تعريبه ):


أوّلاً: من الجليّ البيّن أنّ أئمّة الفريقين من أصحاب الإمام المقدّم أبي حنيفة، والإمام المكرّم الشافعي، وعلماء وفقهاء الطوائف قد رَعَوا هذه السنّة خَلَفاً عن سَلَف، وحافظوا عليها. فالشافعي الذي هو مؤسّس المذهب المنسوب إليه قد أنشد ـ فضلاً عن المناقب التي نقلها ـ أشعاراً في رثاء الحسين عليه السّلام وشهداء كربلاء، يقول في إحداها:
أبكي الحسينَ وأرثي منه جَحجاحا ـ مِن أهل بيت رسول اللهِ مِصباحا إلى آخر قصيدته العصماء.
ويقول في قصيدة ثانية:
تـأوّبَ هَمّي فـالفـؤادُ كـئيـبُ    وأرّقَ نـومي فالرُّقادُ عـجـيـبُ
وممّا نفى نَومي وشـيّب لـمّتـي    تـصاريـفُ أيّامٍ لَهُنّ خُـطـوبُ
فمَن مُبلِغٌ عَنّي الـحسـينَ رسالةً    وإن كَـرِهَتْـهـا أنـفـُسٌ وقُلوبُ
قـتيلاً بـلا جُـرمٍ كأنّ قـميصَهُ    صَبـيغٌ بماء الأُرجوان خَضـيبُ

تَـزَلـزلـتِ الدنيا لآلِ محـمّـدٍ    وكـادتْ لهم صُمُّ الجبالِ تـذوبُ
وغارتُ نُـجومٌ واقشعرّت كواكبٌ    وهُـتّـِك أستـارٌ وشُـقَّ جُيوبُ


ومراثي شهداء كربلاء التي أنشدها أتباع أبي حنيفة والشافعي لا يمكن حصرها، فإن كان في ذلك قَدْح، فهو أوّلاً قدح في أبي حنيفة والشافعي، ثمّ فينا.
ثمّ يذكر عبدالجليل نماذج من إقامة أهل السنّة مراسم العزاء ـ بما فيهم الحنفيّة والشافعيّة ـ خلال القرن السادس الهجري، ثمّ يقول:
وإذا تقدّمتَ في الزمن اتضّح لك جليّاً أنّ الخواجة أبا منصور ماشاده ( من علماء المذهب الشافعي البارزين في إصفهان ) الذي كان قدوة للناس في إصفهان ـ وكان على مذهب أهل السنّة ـ كان يقيم العزاء يوم عاشوراء من كلّ سنة، فيُديم فيه البكاء والنياح، وكلّ من جاء إلى إصفهان عَلِم بذلك وشاهده عياناً.
كما كان الخواجه علي الغزنوي الحنفي ( من كبار وعّاظ بغداد، وكان السلطان مسعود السلجوقي يحضر في مجلسه ) كان يُقيم هذا العزاء في بغداد مدينة السّلام ومقرّ دار الخلافة، حتّى أنّه بالَغَ يوم عاشوراء في لعن آل أبي سفيان، فنهض رجل وسأله: ما تقول في معاوية ؟ فصاح بصوتٍ رفيع:
أيّها المسلمون، إنّ هذا يسأل عليّاً ( وعليّ هو اسم الواعظ ) ويقول: « ما تقول في معاوية ؟ »، أفلا تعلم ماذا يقول عليٌّ في معاوية ؟!
وسئل أمير عبّادي ( قطب الدين مظفّر، أحد وعّاظ بغداد المعروفين ) وكان علاّمة عصره وأميراً في الكلام والخطابة ـ وكان في مجلس المقتفي لأمر الله ـ في اليوم التاسع من المحرّم: ما تقول في معاوية ؟ فلم يُجِب، حتّى كرّر السائل سؤاله ثلاث مرّات، ثمّ قال: أيّها الرجل، سألتَ سؤالاً مُبهماً، ولستُ أعلم أيّ معاوية تقصد، أمعاوية الذي كسر أبوه ثنايا المصطفى، ولفظت أمّه كبد حمزة، وسلّ سيفه في وجه عليّ بضعاً وعشرين مرّة، وحزّ ابنُه رأسَ الحسين ؟! فيا أيّها المسلمون، ما تقولون في معاوية هذا ؟ فارتفعت أصوات الناس بلعن معاوية في حضور الخليفة، وكان منهم الحنفي والشافعي وأتباع المذاهب السنّيّة الأخرى.

(كتاب مقالات تاريخية، تأليف رسول جعفريان)

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد