الفقيه الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري قدّس سرّه
هو الشيخ عبد الكريم بن المولى محمد جعفر اليزدي الحائري القمّي، ولد في مهرجرد من قرى يزد في سنة 1276 هجرية. وكان أبوه من الصلحاء ورجال القرية المعروفين، فوجّه ولده إلى التعليم، وما أن تعلّم القراءة والكتابة وأتقن مبادئ العلوم حتّى بعثه إلى يزد، وكان فيها عدد من العلماء المدرّسين، فقرأ عليهم العلوم العربية وسطوح الفقه والأصول، ثمّ هاجر للتكميل إلى العتبات المقدّسة في العراق وجاور سامرّاء، فأكمل السطوح على الشيخ فضل الله النوري، والميرزا إبراهيم المحلّاتي الشيرواني، وحضر على السيد المجدّد الشيرازي، والسيد محمّد الفشاركي الأصفهاني، والميرزا محمّد تقي الشيرازي، وغيرهم، فقد لازم حلقات دروسهم سنين طوالاً، وبعد وفاة المجدّد هاجر السيد الفشاركي إلى النجف الأشرف فصحبه الشيخ عبد الكريم وظلّ ملازماً لدروسه إلى أن توفّي في سنة 1316، فلازم درس الشيخ محمّد كاظم الخراساني وكان من أجلّاء تلاميذه وبارزي حوزة درسه، وهبط كربلاء قبل وفاة الخراساني، فالتفّ حوله عدد من الطلاب فاشتغل بالتدريس والإفادة، وكان الميرزا محمد تقي الشيرازي يبجّله ويشير إليه ويعترف بفضله ومكانته، حتّى أنّه أرجع احتياطاته إليه، فلفت ذلك إليه الأنظار وأحلّه مكانة سامية في النفوس.
في سدّة المرجعية
في أوائل سنة 1333 هجرية سافر الشيخ عبد الكريم إلى إيران لزيارة مشهد الإمام الرضا عليه السلام في خراسان، وتلقّى دعوة من بعض وجوه «آراك» للإقامة عندهم، فهبط مدينة «سلطان آباد» مركز عراق العجم، وكان هناك بعض أهل العلم فعنيَ بتدريسهم وتنمية مواهبهم، وكان أن ازداد عددهم وبلغ نحو ثلاثمائة طالب علم، وأقبل الطلاب عليه، وأصبحت المدينة مركز ثقافة وعلم على بساطتها. ولما انتقل إلى رحمة الله مراجع الشيعة في التقليد في تلك الآونة كالسيد محمد كاظم اليزدي، والشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي، وشيخ الشريعة الأصفهاني، اتّجه إليه عدد من المقلّدين وحاز ثقة العامّة فضلاً عن الخاصّة، لما أسلفناه من تأييد الميرزا الشيرازي له.
وفي رجب سنة 1340 هبط مدينة «قم» المشرّفة بدعوة من بعض رجال العلم فيها رغبة في إحياء أمرها الغابر وإعادة مجدها الداثر، فنظم من كان فيها من طلّاب العلم تنظيماً عالياً، وأعلن عن عزمه على جعلها مركزاً علمياً يكون له شأنه في خدمة الإسلام وإشادة دعائمه، وأخذت الحقوق الشرعية والهبات تتوالى عليه من البلدان الإيرانية، فوسّع العطاء على الطلاب والعلماء، وبذل عليهم بسخاء، وسنّ نظاماً للدراسة، وقرّر ترتيباً مقبولاً للإشراف على تعليم الطلاب وإجراء الامتحان السنوي، والناس يومئذ ذوو عقيدة راسخة وإيمان ثابت، واهتمام بشأن الدين ورجاله واحترام لحملَته وطلّابه، فتقاطروا إليه من كلّ حدب وصوب، وغصّت المدارس بأهِليها، وزاد عدد الطلاب والعلماء في أوائل هجرته إليها على الألف، وقام بأعباء إعاشتهم وتنظيم أمورهم بهدوء وحكمة، وقد أبدى كياسة وكفاءة، ودلّل على عقلية جبارة ونفس كبيرة وصدر رحب، ولم يكن ليكنز الأموال الطائلة من الحقوق الشرعية عنده أو تحت يده، بل ائتمن بعض أصحاب المتاجر من الصالحين، فكانت تحوّل إليه وتجتمع عنده، ويصدر الشيخ له أمره بتوزيعها من قبله على مستحقّيها وسائر المشاريع المخصّصة لها، وقد آزرته الحكومة يومئذ فقصده السلطان أحمد شاه آخر ملوك القاجاريين إلى قم مع حاشيته للتعرّف إليه وتهنئته في نجاحه في مسعاه حول تأسيس الحوزة العلمية.
ترسيخ زعامته الروحية
اتفقت بعض الوقائع والحوادث في أوائل هجرته إلى قم ساعدت على دعم شخصيّته وبناء كيانه وإبرازه إلى الوجود كزعيم روحي له وزنه ومقامه، منها ورود زعماء الدين ومراجع التقليد في النجف الأشرف يومذاك عليه وبقاؤهم عنده في قم، وذلك أنّ الشيخ مهدي الخالصي عندما نفته الحكومة العراقية سنة 1341 توجّه إلى إيران بدعوة منها، كما توجّه إليها السيد أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا محمد حسين النائيني، والسيد علي الشهرستاني، والسيد عبد الحسين الحجّة وغيرهم من العلماء الذين وقفوا موقف الخالصي واحتجّوا على تبعيده، فنُفي البعض منهم أيضاً، واحتجّ الآخرون على نفيه فخرجوا مغضبين وتفرقوا في بلاد إيران، أمّا الأصفهاني والنائيني والشهرستاني فقد هبطوا قم وحلّوا ضيوفاً على الحائري، وكان الأوّلان يومئذ أكبر علماء النجف وأشهر مراجعها، وقد رحّب بهما الحائري كلّ الترحيب، وأنزلهما منزل العزّة والكرامة، كما عنيَ بهما الشعب الإيراني وعلى رأسه حكومته، فاستُقبلا من الحدود من قبل مختلف طبقات الشعب، وفي طليعتها العلماء والمسؤولون، وأمر الشيخ عبد الكريم رجال العلم باستقبالهم على مسافة من قم، وجاء الشاه ورجال دولته لزيارتهما، وهنا صارت دار الشيخ الحائري مهبط الأمراء وعلّية القوم والأشراف والأعيان. وفي الحقيقة كانت لهذه الزيارة فائدتها الكبيرة للحائري، فهو وإن كان عالماً شهيراً إلّا أنّ نزول هذين الزعيمين عنده ولمّا يمضِ على هبوطه قم أكثر من عام أثّر في نشر اسمه في مختلف البلاد الإيرانية والأوساط الرسمية والشعبية، وبهذا دخل بيته من لم يكن يتّفق له دخوله من قبل، وتعرّف إلى أناس من ذوي النفود كان تعرّفه عليهم ووصولهم إليه يتطلّب الوقت والجهد للذين هو في حاجة إلى بذلهما على مشروعه الجبّار والجامعة التي بدأ يشيّد أساسها، وهذا ما ركز مقامه ودعم زعامته، أضف إلى ذلك أنّ الضيفين الكبيرين - وهما أفضل مدرّسي النجف - قد تولّيا التدريس بدعوة منه خلال مكثهما في قم.
في مواجهة علمنة رضا بهلوي
لاقى الشيخ عبد الكريم الحائري في طريق عمله لترسيخ أركان حوزة قم والقيام بشؤون الزعامة الدينية على وجهها من الصعاب والمتاعب ما يكفي لتراجع أكبر الرجال قلباً وأقواهم شكيمة وأوسعهم صدراً، حيث كان لإنهاء حكم القاجاريين وتولّي رضا البهلوي السلطة في إيران تأثير بارز في تقليص جهوده والحدّ من نشاطه، إذ رافقت ذلك أحداث ووقائع جسام، وكانت سيرة البهلوي واضحة في عزمه الأكيد وتصميمه على القضاء على الدين ومحو كلّ أثر لرجاله وشعائره ورسومه، فقد سجن العلماء الكبار، ونفى عدداً منهم، ودسّ السمّ لآخرين، وفعل الأفاعيل من هذا القبيل، وفى هذه الظروف كان الحائري يعمل على توسيع دائرة الحوزة العلمية في قم ونشر الدعوة، ودعم هيكل الدين، وإشادة مجد الإسلام بإعمام أحكامه وتطبيق نظامه. في ذلك الوقت، وفي تلك الظروف السود قاوم هذا العالم المخلص ديكتاتورية الملك وإباحيّته ووقف في وجهه، مجنّداً كلّ إمكانياته وقابلياته، وموطّناً نفسه للعظائم ومضحّياً في سبيل دعوته بكلّ ما يملك.
وكانت هناك حوزات علمية صغيرة في خراسان وطهران، وتبريز وأصفهان، وغيرها من بلاد إيران، تمكّن الحاكمون من تفريق شملها والقضاء عليها، وبقي همّهم منصرفاً للقضاء على حوزة قم إلّا أنّ حنكة الحائري وإخوانه، وصبرهم على المكاره وتحمّلهم للصعاب قد حال دون ذلك، وهكذا نمت البذرة الصالحة في تلك التربة الطيّبة واتسعت الحوزة العلمية اتّساعاً غير منتظر، وما مضت السنوات والأعوام، إلّا وازدهرت الحياة الدينية والثقافية، وتعددت الهيئات العلمية، وإذا بالكيان الذي شادته البطولات الخارقة والهمم العالية ضخماً جبّاراً يضاهي الثريّا رفعة وشموخاً.
مكانته العلميّة
كان الشيخ عبد الكريم الحائري من الناحية العلمية أحد أفذاذ عصره، وفطاحل العلم، وأساطين الدين، ومن كبار الفقهاء وأجلّائهم، له في العلوم الإسلامية قدم راسخة وباع طويل، وقد شهدته معاهد العلم في النجف وكربلاء، واعترف بمكانه وتضلّعه كبراء المدرّسين وفحول المجتهدين، وقد مرّ رأي الميرزا الشيرازي فيه وإناطة ثقته به، إلّا أنّه بالرغم من جلالة قدره وتحقيقه ومقامه الرفيع كان بعيداً عن الادّعاء وترشيح النفس، وظلّ حتى بعد أن صار من أكبر مراجع التقليد شديدَ الاحتياط في الفتاوى، كثير التحفّظ والتروّي. وكان له إلى أواخر أيامه درسان؛ أحدهما في الفقه، وكان يُلقيه صباحاً، والآخر في الأصول ويلقيه عصراً. وكان كثير البرّ بالطلاب والعلماء، شديد العطف عليهم والعناية بهم، يرعى الصغير والكبير، وبالرغم من تعيينه لموزّعي الرواتب وتوكيله للثقات من تلامذته وأصحابه بالقيام باللوازم والاستفسار عن النواقص، إلّا أنّه كان يتولّى بعض الأمور بشخصه ويباشرها بنفسه، وكان أعدّ لهم كلّ شيء قد يحتاجون إليه، حتّى أنّه بنى مستشفى خاصّاً بالعلماء والطلاب ليشعرهم بالكيان المستقل والكرامة الموفورة التي كانوا يتمتّعون بها. وفي الوقت الذي كانت فيه الشخصيات السياسية والتجارية والأمراء والقوّاد يتهافتون على بيته للثم أنامله وعرض أنفسهم لخدمته، كان يدور على غرف طلّاب العلم بمفرده للاطّلاع على أحوالهم وأساليب معيشتهم، والوقوف على مدى عنايتهم بالدرس والمطالعة، وكان يحثّ المتساهلين ويشوقهم، ويمدح النشّاط، ويمنح المتفوّقين في الامتحان جوائز قيّمة، وكان يوصي الكلّ بالإخلاص في العمل والالتزام بتقوى الله تعالى، ولم يُسمع عنه رغم كثرة من كان يعيل به من الطلّاب أنّه ردّ طالباً أو كسر خاطراً أو أخجل إنساناً، ولذلك كان الكلّ ينظرون إليه نظرتهم إلى الأب الرؤوف.
وفاته
ظل الشيخ الحائري كالطود الأشم يدير الكيان العلمي لحوزة قم ويدرأ عنه المخاطر ويردّ عنه غائلة العدوّ، ورغم الكوارث والهنابث التي كانت تنزل بالشعب الإيراني المسلم على يد حاكمه الجبّار يوماً بعد يوم، ولا سيّما رجال العلم والصلاح، فكان يرى كبار العلماء من زملائه يعانون آلام النفي والسجن، ويعاملون بمنتهى القسوة، ويُدسّ لهم السمّ في المنافي ويموتون خنقاً في السجون، ويرى السفور وقد فُرض على المحجبات وذوات العفّة والنجابة فرضاً، وطلّاب الدين يساقون إلى الخدمة العسكرية زرافات ووحداناً، والخمور تباع علناً، وعزاء سيّد الشهداء وزيارة قبور آل محمّد بالعراق وغيره محظورة يعاقب عليها، وأخيراً واقعة خراسان التي قُتل فيها الألوف من العلماء والسادة والأشراف والزوار الغرباء في مسجد «گوهرشاد» الملاصق لحرم الرضا عليه السلام حين دُعوا للاجتماع بخديعة، ووّجهت المدافع عليهم فدفنتهم تحت الأنقاض ظلماً وعدوانًا.. لقد كان الشيخ الحائري يرى ذلك كلّه بعينه وقلبه يقطر دماً لأنه لا يستطيع دفع الضرّ، وكان الوحيد بين العلماء حيث لم يتعرّضوا له شخصياً وكانوا يُبدون له الاحترام ظاهراً ويجاملونه، وكان يحافظ على هذه الشكليات ليدفع بها الشرّ عن الباقين في بعض الحالات، وصار يرغب للعزلة وينزوي عن الناس لأنّه يرى ما يحلّ بهم ولا يقدر على مساعدتهم، وهكذا إلى أن مرض وتغلّبت عليه العوارض وتوفّي في ليلة السبت 17 ذي القعدة سنة 1355 هجرية، فثُلم الإسلام بموته، وخسر المسلمون به زعيماً كبيراً، وركناً ركيناً، وداخلَ النفوس من الخوف والهلع ما لا مزيد عليه، إذ كانوا يعتصمون به ويستظلّون بظلّه، وقد جرى له تشييع عظيم قلّ نظيره، ودفن في رواق حرم فاطمة المعصومة عليها السلام بقم، حيث مقبرته المعروفة اليوم، ورثته الشعراء وأبّنه العلماء.
آثاره العلمية
ترك الشيخ عبد الكريم الحائري من الآثار (كتاب الصلاة) في الفقه، و(التقريرات) في أصول الفقه من بحث أستاذه الفشاركي، وقد استُخرج منه كتابه الآخر (درر الأصول)، وهو حاوٍ لمباحث الأصول برمّتها ما عدا الاجتهاد والتقليد.
وقد أُتيحت له فرصة تربية جيل كبير من الفقهاء الذين أضحوا فيما بعد عمد الدين، وأساطين الحوزة، ومراجع للفقه والأُصول، وقد غطّى البلاد جلّ المتخرّجين من هذه الحوزة، فما من مدينة إلاّ وفيها خرّيج من هذه الحوزة المباركة من تلامذته، أو من المتخرّجين على يدي تلامذته، منهم: الإمام الخميني، وسيد الطائفة آية اللّه الكلبايكاني، وشيخ الفقهاء آية اللّه الأراكي قدّس سرّهم.
ـــــــــ
مجلة شعائر العـدد التاسع والثمانون
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع