من التاريخ

جويبر المؤمن وزلفا الراضية

 

إنّ المجتمع اللاطبقي في الإسلام هو المجتمع الخالي من التمايز، المجتمع الذي لا يُقيم وزناً للامتيازات الموهومة، لا المجتمع الذي يُهمل متعمّداً المواهب والمكتسبات والكفاءات، ولا يأخذها بعين الإعتبار.
قدم رجل من اليمامة إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه، أي استوعب المعارف الإسلامية، وتربى في تعاليم الإسلام.
كان يُدعى جويبراً، وكان قميئاً قبيح الملامح، أسود اللون، فقيراً لا يملك شروى نقير.
ولما كان في المدينة وحيداً، أخذ يُمضي لياليه ينام في المسجد، وبتوالي الأيام تجمّع نفر من أمثاله من فقراء المسلمين، فأمر النبي أن يناموا كلّهم في المسجد...
وفي أحد الأيام مرَّ الرسول الكريم بهم فلمح جويبراً، فقال له: يا جويبر ما أحسن لو إنّك تزوجت، إذ كنت تزيل حاجتك، وتكون هي عوناً لك في دنياك وآخرتك، فقال: يا رسول الله، ومنْ ترضى بي، فلا حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فمن ترى ترغب في رجل مثلي؟!


فقال الرسول صلّى الله عليه وآله: "إنّ الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، فالناس اليوم كلّهم، أبيضهم وأسودهم وقرشيّهم وعربيُّهم وعجميُّهم من آدم، وإنّ آدم خلقه الله من طين {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
ثم قال له: ما من أحد من المسلمين مهاجراً كان أم من الأنصار، ممن هم في دُورهم يسكنون، بأفضل منك إلّا بالتقوى.
ثم أمره أن يذهب إلى دار "زياد بن لبيد الأنصاري"، ويقول له: إنّ رسول الله قد أرسلني إليك أخطب إليك ابنتك "زلفا" لنفسي.
ففعل جويبر ما أمره الرسول به وذهب إلى بيت زياد، وكان من أهل المدينة المحترمين، فدخل عليه فوجد عنده بعضاً من أهله وعشيرته، فاستأذن بالجلوس، فأذن له، فدخل وجلس، ثم التفت إلى زياد وقال له: أحملُ لك من رسول الله رسالة، فهل تُريدها سراً أم علانية؟
فقال زياد: إنّ رسالة رسول الله مدعاة للفخر، فقُلها علانية، فقال: لقد أرسلني رسول الله أخطب منك ابنتك زلفا لنفسي، فما قولك؟ قل حتى أرد جوابك إلى رسول الله.
فعجب زياد وسأله: أرسلك رسول الله بذلك؟ فقال: نعم أرسلني رسول الله، وإنّي لا أفتري على رسول الله كذباً، فقال: ليس من عادتنا أن نزوج بناتنا إلى غير قرنائنا من الأنصار، إذهب أنتَ، ولسوف أرى رسول الله بنفسي.
خرج جويبر تتقاذفه الأفكار، فمرة يتذكر قول الرسول عن إلغاء الإسلام التفاخر والتنابز بالألقاب والأنساب، ومرّة يُفكّر بما سمعه من هذا الرجل عن أنّهم لا يُزوجون بناتهم إلّا من طبقتهم، وقال في نفسه: إنّ ما يقوله الرجل يُناقض تعاليم القرآن.
والله ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله).


كانت زلفا خلال ذلك قد سمعت كلّ شيء، فسألت أباها عن الأمر، فأخبرها زياد بالقصة، فقالت زلفا: والله إنّ جويبراً لصادق، لا تفعل ما يُعيد جويبراً إلى رسول الله حاملاً رفضك أو ترددك، أرسل من يرجع إليك بجويبر، ففعل ذلك، وأُعيد جويبر إلى الدار.
ثم قام زياد بنفسه وذهب إلى الرسول الكريم وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله جاءني جويبر برسالة منك، وما كان من عاداتنا أن نزوج بناتنا من أقراننا، فقال الرسول صلّى الله عليه وآله: "يا زياد جويبر مؤمن والمؤمن كفو المؤمنة والمسلم كفو المسلمة".
فعاد زياد وأخبر ابنته بما حصل، فقال زلفا: عليَّ أن أرضى، وبما أنّ رسول الله هو الذي أرسله، فإنّي راضية به، فأمسك زياد بيد جويبر، وجاء به إلى الجمع من قومه وزوّج ابنته على سنّة الله ورسول لهذا الرجل الأسود الفقير.
وإذ لم يكن جويبر يملك داراً، فقد أعدَّ له زياد داراً مؤثثة بما يلزمهما وجهز ابنته تجهيزاً كاملاً، وبعث بها إلى بيت الزوجية مع بدلتين لجويبر، وإذ دخل جويبر حجرة العرس ورأى كلّ ذلك، شكر الله على نعمه وآلائه، لأنّ الإسلام هو الذي أعزّه وأكرمه.
وكانت حالة الشكر لله التي انتابه من العنف، بحيث أنّه أمضى ليلته في إحدى زوايا الدار حتى الصباح يشكر الله ويناجيه ويتعبّده، ثم التفت فجأة ليرى الصبح قد طلع عليه، فنوى الصيام ذلك اليوم، وأمضى ثلاثة أيام على مثل تلك الحال من الوجد والتوجّه إلى الله تعالى، حتى أخذ الشك يُراود أهل العروس فيما إذا كان الرجل بحاجة إلى زوجة.
وصلت أخبار جويبر إلى رسول الله، فاستدعاه وسأله عن حاله تلك، فقال جويبر: يا رسول الله عندما دخلت ورأيت داراً واسعة، فيها الأثاث والفرش، وامرأة جملية، وكان كل ذلك لي، فخطر لي أنّي أنا الإنسان الفقير الغريب في هذا البلد، قد منَّ الله عليَّ بذلك كلّه بفضل الإسلام، فحقّ عليَّ أن أشكر الله، فصُمت قربةً إلى الله، فكان أن أمضيت أياماً أصوم نهارها وأشكر الله ليلها، وإنّي عائدٌ إلى بيتي وأسرتي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 من كتاب "محاضرات في الدين والاجتماع" للشيخ مرتضى مطهري رضوان الله تعالى عليه صفحة 427 وما بعدها

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد