من التاريخ

بناء المسجد في المدينة المنوَّرة

 

السيد هاشم معروف الحسني
أقام رسول الله (ص) عند أبي أيوب من ربيع الأوّل إلى صفر من السنة الثانية، حيث أتم بناء المسجد ومنازله، فانتقل إليها مع زوجته زمعة بنت الأسود، وكانت أول امرأة تزوّجها بعد خديجة (رضوان الله عليها)، وقيل إنه أقام عند أبي أيوب سبعة أشهر كما ذكرنا من قبل، وتمّ إسلام أهل المحلة التي نزل فيها، إلا بعض الأحياء من الأوس كما جاء في سيرة ابن هشام.
وفي تاريخ ابن كثير، أن رسول الله لما بنى المسجد، كان يشترك معهم في العمل كأحدهم، وقال: ابنوه عريشاً كعريش موسى. قال الراوي: فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: كان موسى إذا رفع يده بلغ العريش، يعني بذلك السقف، ثم بعد مدّة، جمع الأنصار مالاً، وأرادوا أن يدخلوا عليه بعض الإصلاحات ويرفعوا جدرانه، وقالوا: يا رسول الله، ابنِ هذا المسجد وزيّنه، إلى متى نصلّي تحت هذا الجريد؟ فرفض وقال: مالي رغبة عن أخي موسى.
وأضاف ابن كثير في تاريخه، أن مسجد النبي (ص) كانت سواريه على عهد رسول الله (ص) من جذوع النّخل، وأعلاه مظلَّل بجريد النخل، ثم طرأ عليه الخراب في خلافة أبي بكر، فبناه بجذوع النخل وجريده، كما كان في عهد رسول الله (ص)، وبقي المسجد على هذه الحال إلى عهد عثمان بن عفان، فبناه بالأحجار المنقوشة، وزاد فيه زيادة كبيرة.
ويدّعي ابن كثير أنه بقي على حالته التي بناه عليها عثمان إلى عهد عمر بن عبد العزيز، فأمر واليه على المدينة الوليد بن عبد الملك، فزاد فيه وأدخل فيه الحجرة التي دفن فيها النبي والشيخان، ثم أدخلت عليه بعض الزيادات فيما بعد من جهة القبلة، واستطرد يصف المرحلة الأولى من بناء المسجد التي أتمها النبيّ (ص)، ويصف عماراً وحماسه وإقباله على العمل، ونقل الأدوات التي بني بها المسجد، وقال إن غيره كان يحمل لبنة واحدة وهو يحمل لبنتين، فقال لرسول الله: إنهم يحملون عليّ ما لا يحملون.
ويروى عن أمّ سلمة أنها قالت: رأيت رسول الله ينفض وفرته بيده، وكان رجلاً جعداً، ويقول: ويح ابن سميّة، ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية. وأضاف في رواية أخرى أنه قال له: لهم أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن، وتقتلك الفئة الباغية .


وفي رواية أخرى أنه قال له: إنّك تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار. وأضاف إلى ذلك ابن كثير، بعد أن عرض تلك المرويات، أضاف أن ذلك من دلائل نبوّته، حيث قتله أهل الشام في صفين وهو مع عليّ وأهل العراق، ولكنه قال: فإنّ أهل الشام وإن كانوا بغاةً، وعلي على الحقّ وأحقّ بالخلافة من معاوية، إلا أنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من قتل عمار وقتال عليّ، وليس كلّ مجتهد مصيباً، وللمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد.
وهذه الأحاديث التي نقلها ابن كثير نقلها أكثر المؤرخين وكتّاب السيرة الذين وصفوا بناء المسجد في الأيام الأولى لدخول النبي إلى المدينة، وتكاد أن تكون متفقاً عليها، ومع أن ابن كثير قد اعترف بها بنصها الذي ذكرناه، واعترف بأن أهل الشام، وعلى رأسهم معاوية، كانوا بغاة لقتلهم عمار بن ياسر وقتالهم لعليّ، وأن عماراً كان يدعوهم إلى الجنة ويدعوه معاوية وحزبه إلى النار، ومع ذلك، يقول بأنهم كانوا مجتهدين، ولهم أجرهم حيث أخطأوا الحق في قتالهم لعليّ وقتلهم لعمار داعية الجنة.
ولما تمّ بناء المسجد، أمر رسول الله أن يصنعوا له منبراً، فصنعوه له، فخطبهم عليه، وكانت أول خطبة خطبها بينهم، كما جاء في كتب السيرة، قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيّها النّاس، قدموا لأنفسكم، والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربّه وليس له ترجمان ولا حاجب يحميه دونه، ألم يأتك رسولي فيبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك، فلينظرنّ يميناً وشمالاً، فلا يرى شيئاً، ثم لينظرنّ قدامه فلا يرى غير جهنّم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النّار ولو بشقّ تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيّبة، فإنّ بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وفي خطبته الثانية، كان أوسع من الخطبة الأولى، فلقد دعاهم فيها إلى التوحيد والتمسك بالقرآن، وإلى الألفة والمحبّة وجهاد أنفسهم والصدق في الحديث، والتمسّك بما عاهدوا الله عليه، وغير ذلك مما تقتضيه ظروفهم ومصلحتهم، وهكذا كان في خطبه المتتالية يخطو بهم خطوة خطوة نحو تعاليم الإسلام وأهدافه، حسبما تقتضيه المصلحة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد