مقارنة سريعة بين القرآن وتُراث أهل الكتاب تُظهر جليَّاً جزافيَّة الدعوى:
إذا أردنا أنْ نتثبَّت من أنَّ ما اشتمل عليه القرآن المجيد من تاريخ الأنبياء لم يكن قد تلقَّاه النبيُّ الكريم (ص) من النصارى أو اليهود الذين عاصرهم، إذا أردنا أنْ نتثبَّت من ذلك فيكفي أن نطلع على التراثين المسيحي واليهودي كالكتاب المقدَّس بعهديه القديم (التوراة وسائر الأسفار) والجديد (الأناجيل والرسائل) وكذلك سائر تراثهم المدوَّن لنجد الفروق الجوهريَّة بين ما ورد في القرآن المجيد وبين ما اشتمل عليه التراث النصراني واليهودي، فلو كان النبيُّ (ص) قد تلقَّى تاريخ الأنبياء من اليهود أو النصارى -كما يزعمون- لكان ما جاء به القرآن من تفاصيل تاريخ الأنبياء مطابقاً أو متقارباً لما هو عليه التراث اليهودي والنصراني، والحال أنَّنا نجد تبايناً وفروقاً جوهرية بين ما جاء به القرآن المجيد، وبين ما اشتمل عليه التراث اليهوديّ والنصرانيّ.
بل نجد أنَّ التراث اليهوديّ والنصراني قد أهمل الكثير من تفاصيل القضايا المتصلة بتاريخ الأنبياء، إلا أنَّ القرآن قد تصدَّى لبيانها ابتداءً بقصَّة بدء الخلق لآدم (ع) ومروراً بتاريخ نبيّ الله نوح (ع) وحديث الطوفان ثم الحديث عن أنبياء لم يتصدَّ التراث اليهودي والنصراني لذكرها أساساً كتاريخ نبيِّ الله هود وقوم عاد، ونبيّ الله صالح وقوم هود والكثير من التفاصيل المرتبطة بتاريخ النبيّ إبراهيم (ع) وإسماعيل وبناء الكعبة والمرتبطة بتاريخ نبي الله لوط (ع) والاختلاف البيِّن في تفاصيل ما وقع لنبيِّ الله يوسف (ع) ونبيِّ الله موسى (ع) وبعده ما وقع لداود وسليمان (ع)، وكذلك تاريخ نبيِّ الله عيسى (ع) وكيفيَّة ولادته وما جاء فيها من تفاصيل ترتبط بأمِّه مريم (ع) وكيفيَّة الحمل وبكلامه في المهد الذي لم تُشر إليه شيء من أناجيلهم وقضية الصلب، وقضية أصحاب السبت، وقضية مائدة السماء، وقضية أصحاب الكهف، والكثير من القضايا التي يجد المقارن بين التراثين اليهودي والنصراني وبين القرآن فروقاً جوهرية بينها.
فظائع وخرافات اشتمل عليها الكتاب المقدس بعهديه:
على أنَّ المقارِن بين القرآن المجيد وبين التراثين اليهوديِّ والمسيحيِّ يجد أنَّ القرآن كان بصدد التصحيح للكثير من التحريفات التي وقعت في العهدين القديم والجديد لتاريخ الأنبياء كنسبة شرب الخمر وصناعته لنبيِّ الله نوح (ع)!! ونسبة الدياثة لإبراهيم (ع) وكذلك إسحاق (ع)!! ونسبة الزنا بالمحارم لنبيِّ الله لوط (ع) ونسبة الظلم والممالئة على الظلم والغصب لنبيِّ الله يوسف (ع)!! ونسبة الزنا لداود (ع) وأنَّه ينحدر من سفاح وأنَّه كان صعلوكاً قاطع طريق يقتل ويغدر!! ونسبة الخطيئة لأيوب وأنَّ البلاء الذي وقع عليه كان عقوبةً من الله تعالى!! ونسبة الكفر والشرك لنبيّ الله سليمان (ع) وأنَّه مات كافراً!! ونسبة صناعة العجل وعبادته لهارون (ع)!! ونسبة القتل الذريع للنساء والأطفال لموسى (ع) وكذلك للعديد من أنبياء بني إسرائيل!! ونسبة صناعة الخمر وشربه لنبيّ الله عيسى (ع)!! مضافاً إلى دعوى رؤية الله تعالى جهرةً من قِبَل بني إسرائيل الذين أخذهم موسى (ع) لجبل الطور!! ودعوى أنَّ الله ندم بعد الطوفان!! وأنَّ الله تعب واستراح بعد خلق السموات والأرض!! وأنَّه تصارع مع نبيِّ الله يعقوب فصرَعه يعقوبُ مراتٍ عديدة!! وأنَّ يعقوب حصل على النبوَّة والبركة بالكذب والاحتيال على أبيه إسحاق (ع)!! وأنَّ عيسى ابن الله وهو كامل الألوهيَّة وأنَّه ثالث ثلاثة!! وأنَّ الله قد تجسَّد فيه كما يزعم التراث المسيحي!! ونسبة اليهود التجسيمَ لله وأنَّ له جوارح كجوارح الإنسان!! وأنَّه يتجوَّل مشياً في الجنَّة ويبحث عن آدم (ع) ولا يدري أين اختبأ!! وأنَّ الله تعالى ينامُ ويستيقظ وأنَّه يندمُ وينسى ويتعبُ!! كلُّ ذلك وغيره كثير يجدُه المقارن بين العهدين القديم والجديد وبين القرآن المجيد، ويتَّضح له أنَّ القرآن كان بصدد التصحيح لهذه التحريفات التي وقعت في التراثين اليهوديّ والمسيحي.
التبايُن في المنظومة العقائديَّة بين القرآن وتراث أهل الكتاب:
ثم إنَّ القرآن المجيد لا يتلخَّص في بيان تاريخ الأنبياء فهو مشتملٌ على منظومةٍ عقائدية متكاملة حول التوحيد وصفات الله الذاتيَّة والفعليَّة وأسمائه الحسنى، وحول النبوَّة والعصمة والوحي والإمامة وشرائطها وحول الغيب والمغيبات والملائكة وصفاتهم ووظائفهم وحول المعاد الجسماني وتفاصيل يوم البعث والنشور والجنَّة والنار وتفاصيل ما يتَّصل بهما، وحول الإيمان والكفر وأنحاء الشرك، والطاعة والمعصية والخطيئة والشفاعة والتوبة والمغفرة والجزاء والعقاب والثواب، وكلُّ هذه القضايا العقائديَّة منها ما هو على طرف نقيض مع العقائد في التراثين المسيحيِّ واليهودي، ومنها ما هو مختلفٌ اختلافاً جوهرياً مع العقائد اليهوديَّة والمسيحيَّة، فكيف يكون الرسولُ (ص) قد تلقَّى ذلك من اليهود أو النصارى والحال أنَّها مباينة لما هم عليه؟!
مجمل تراث أهل الكتاب لم يُترجم إلا في عهدٍ قريب:
ثم إنَّ مجمل التراثين المسيحيِّ واليهوديِّ لم تتمّ ترجمته إلى اللغة العربيَّة إلا في عهدٍ قريب من القرن العشرين فكيف يكونُ النبيُّ (ص) قد اطلع عليه قبل ما يزيد على الأربعة عشر قرناً وكان النبيُّ (ص) قد عاش طوال عمره الذي امتدَّ لأربعين سنة قبل البعثة في مكة التي كانت لغتها عربيَّة وكانت ثقافة أهلها وثنيَّة ولم يكونوا مسبوقين بحضارة وكان يسودُها الجهل والأميَّة ولم يكن النبيُّ (ص) قد تلقَّى تعليماً من أحد شأنُه شأنُ نظرائه من أبناء مكة، ولم تكن اليهود والنصارى تقطنُها، ولم يُعهد عنه أنَّه سافر من مكة إلا مرَّتين مرَّةً كان صبياً بصحبةِ عمِّه أبي طالب ومرَّةً كان مُضارِباً بأموال خديجة، وكانت السفرتان قصيرتين، فكيف أُتيح له التلقِّي لكلِّ هذه المعارف من اليهود والنصارى في هذه المدَّة القصيرة؟! وحين هاجر إلى المدينة كان نبيَّاً وقد نزل عليه أكثر القرآن خصوصاً ما يتَّصل منه بأصول العقيدة وتاريخ الأنبياء فإنَّ ذلك كلَّه قد نزل عليه في مكة قبل الهجرة وقبل أنْ يلتقي بيهود المدينة على أنَّه بعد هجرته إلى المدينة كان في صراعٍ محتدم مع قبائل العرب من المشركين، وكذلك كان في صراع مع يهود المدينة، فمتى تلقَّى عنهم كلَّ هذه المعارف؟! والحال أنَّه كان يتحدَّاهم فيما كان يعرضُه من عقائد، وفيما كان يعرضه من تاريخ الأنبياء، ويؤكِّد لهم أنَّ ما يَعرضُه هو الحقُّ وأنَّ ما يزعمونه باطلٌ وكذبٌ على الله تعالى وعلى أنبيائه.
القرآن نفى عن النبي أنَّه تلقَّى تعليماً ولو كان لما خفي عليهم:
ثم إنَّ القرآن المجيد قد تحدَّث عن الواقع التعليمي الذي كان عليه الرسول (ص) قبل المبعث النبويِّ فقال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (1).
فالآيةُ المباركة تنفي عن النبيِّ (ص) أنَّه قد درس أو قرأ كتاباً أيَّ كتاب أو أنَّه كتب أو استنسخ شيئاً من كتاب، وهذه الآية بمسمعٍ ممَّن هم مطَّلعون على أحوال النبيِّ (ص) التفصيليَّة وهم المشركون من قريش، فهو قد نشأ في وسطهم وفي منطقتهم الضيِّقة (مكة) وهو واحد من أفراد قبيلتهم المحدودة وهو ما يقتضي بطبعه اطلاعهم على تفاصيل أحواله واطلاع كلِّ فردٍ على أحوال بقية أفراد القبيلة، فلو كان قد تلقَّى تعليماً من أحد لما خفيَ عليهم خصوصاً وأنَّ التعليم لم يكن مألوفاً، كما أنَّ التعليم يحتاج إلى وقتٍ ليس بالقصير، فلو كان ذلك قد وقع لكان مُلفتاً لا يخفى عليهم، وقد خاطبهم القرآن بهذه الحجَّة عند قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (2).
فنفيُ القرآن المجيد تلقِّي النبيِّ الكريم (ص) لأيِّ تعليمٍ، وإذعانُ المشركين بذلك يدلُّ دلالةً بيِّنة على أنَّه لم يتلقَّ تعليماً من أحد وإلا لتصدَّوا لتكذيب ما أفاده القرآن، فقد كانوا حريصين على تكذيبه وتفنيد دعاواه، ولو وقع ذلك منهم لشاع وذاع ولحرصوا على إذاعته في الأوساط إبطالاً لحجَّته، ولتلقَّف ذلك أعداؤه من اليهود والنصارى وروَّجوا له، فكيف لا نجد لذلك عيناً ولا أثراً.
ثم إنَّ النبيَّ الكريم (ص) لو كان قد تلقَّى تعليماً لكان قد تلقَّاه من علماء اليهود أو النصارى، ولو وقع ذلك منهم لأشاعوا نقلَه ودوَّنوه في كتبهم، فلماذا يخلو تأريخُهم من ذلك، فهم كانوا أحرصَ الناس على تفنيد دعواه وإبطال حجَّته فهو ألدُّ أعدائهم، وهذا ما يُؤكِّد أنَّه -كما أفاد القرآن- لم يتلقَّ تعليماً من أحد.
معارف القرآن تفوق بمراتب الثقافة السائدة في مجمل العالم الذي بُعث فيه:
ثم إنَّ هنا أمراً تجدرُ الإشارة إليه وهو أنَّ ما جاء به القرآن مِن قيمٍ ومفاهيم ومعارف وتشريعات مضافاً إلى المنظومة العقائدية وتاريخ الأنبياء يفوقُ ويُباين ما كانت عليه ثقافة الحضارتين الفارسيَّة والرومانيَّة فضلاً عمَّا كانت عليه الجزيرة العربية التي كانت تغرقُ في الجهل، فكيف أُتيح لابن الصحراء الذي كان يعيشُ في منطقةٍ معزولة عن العالم أن يأتي بهذا النمط الفريد والمبرهَن من المعارف الإلهيَّة والتشريعات المتَّصلة بمختلف مناحي الحياة، وكيف أُتيح له التأسيس لهذه القيم المتناغمة عن الحياة والإنسان والقيم التي تُحدِّد طبيعة العلاقات الاجتماعية وتُفضي بها نحو الكمال.
إنَّ مقارنةً سريعة ومنصفة لِما كانت عليه الحضارتان وما كان عليه مجمل العالم الذي بُعث فيه النبيُّ (ص) من ثقافة وعلاقات وتشريعات وبين ما اشتمل عليه القرآن المجيد من مفاهيم وقيم وتشريعات تنتهي هذه المقارنة إلى الإذعان بتفوُّق ما جاء به القرآن على مجمل الثقافة والتشريعات السائدة في العالم الذي بُعث فيه النبيُّ (ص) فكيف أُتيح لهذا الرجل الذي لم يتلقّ تعليماً من أحد أنْ يتفوَّق بما جاء به على مجمل ما عليه عالـمُه من ثقافاتٍ راكمتها الخبرات والتجارب التي امتدَّت لآلاف السنين وما زال وسيظلُّ ما جاء به يتحدَّى العالم في أنْ يأتوا بما هو أفضل منه وأجدرُ بالاعتماد.
ــــــــــــــــــــــ
1- سورة الشورى / 52.
2- سورة يونس / 16.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان