الشيخ محمد جواد مغنية
في سنة 1961 أرسلت جريدة «النهار» البيروتية أحد محرريها إلى أصفهان، وهو الأستاذ كمال سنو، ليكتب لها عن الآثار العجيبة التي يتوارثها الإيرانيون جيلاً بعد جيل، والتي تحكي عظمة الإيرانيين بعامة، والصفويين بخاصة، فكتب مقالاً مطولاً، نشر في عدد 13 أيلول سنة 1961.
وبالنظر لأهمية المقال، وفائدته من الوجهة العلمية والتاريخية، وخوفاً من ضياعه، وأن يطوى مع الأيام، كما تطوى أعداد الجرائد، رأيت أن أحتفظ به لوقت الحاجة، وهذا وقتها، وأدرجته في كتابي هذا مسروراً مغتبطاً (الشيعة في الميزان)، لأن في ذلك خدمة للدين والعلم معاً. وليس من شك أن القارئ سيخرج منه، وهو على يقين بأن الصفويين قد بلغوا الذروة في المدنيّة والحضارة، وأنهم قدموا للعالم الإسلامي، وللناس أجمع أجل الخدمات وأعظمها في هذا الميدان. وقد أردنا نحن من حديثنا عمن تحدثنا عنهم من دول الشيعة أن نثبت أن الشيعة ساهموا في عمل الحضارة الإسلامية والعربية، تماماً كما ساهم غيرهم من الطوائف، وأنهم ليسوا في ذلك بأقل حظاً من سواهم، إن لم يكونوا أكثر وأوفر.
قال الأستاذ سنو:
في مدَينَة العجَائب وَالمسَاجد رأيتُ خَطّ الإمَام عَلي في أصفهَان
وقفت تحت قبة مسجد شاه وصفقت مرة واحدة، فإذا بالصدى يعيد التصفيق 7 مرات.
وقفت على مئذنة منارة جمجم وهززتها، فإذا بها تهتز، ثم تهتز المئذنة المقابلة، ثم يهتز البناء كله.
طفت حول البركة الواسعة في قصر الأربعين عموداً (جهل ستون) لأرى عجائب هندسة العشرين عموداً التي تظهر في المياه في أي زاوية وقفت من زوايا البركة الواسعة.
تأملت الثقب في قبة مسجد جهارباخ، الذي تدخله الشمس في زاوية محددة لا تتغير من الشروق حتى الغروب، وإذا أمطرت الدنيا لا تتسرب نقطة ماء من الثقب إلى داخل باحة المسجد.
صعدت سلالم بناية «علي قابو» التي تبدو من الخارج طابقين، فإذا هي في داخلها سبعة طوابق، وخصص طابقها الأعلى لغرفة الموسيقى عندما كان يدخلها الموسيقيون فيعزفون ساعة أو أكثر ثم يخرجون ويقفلون الباب وراءهم، وعندما يأتي السلطان، يفتح الباب ويدخل مع نسائه فيعود صدى الموسيقى يتردد طوال الليل حتى يقفل الباب.
تجولت في السوق القديمة (البازار) التي تعتبر من أقدم الأسواق في العالم.
زرت مسجد الشيخ لطف اللّه، وكان أول مسجد بني بدون مئذنة، وخصص الطابق تحت الأرض للنساء، والطابق الأعلى للرجال.
قضيت نصف يوم بين أركان مسجد جمعة، الذي يجمع آثار عدة فتوحات فترى فيه منابر الفتح الإسلامي، ومنابر الفتح المغولي، ومنابر السلاطين الفرس.
وسمعت الحديث عن المياه الساخنة الأزلية وكيف حرم منها أهل المدينة بسبب الفضول الإنكليزي.
وسمعت قصصاً عن أركان كثيرة، في نواح عديدة، ينطق كل منها بصفحة من صفحات التاريخ.
كان ذلك في أصفهان، مدينة العجائب.
كل ما عرفته عن أصفهان قبل أن أزورها أنها مدينة صناعة السجاد. وكانت فيما مضى مهداً أدبياً، ومسرحاً حضارياً خلال فترة طويلة من الزمن. وبعد أن زرتها عرفت وجهاً آخر لها.
إنها مدينة السجاد، ومدينة المساجد، ومدينة العلم، ومدينة العجائب، ومدينة الإيمان، ومدينة الصناعة اليدوية، ومدينة من السماء.
وعندما تحلق الطائرة فوق سماء أصفهان، وتجول أكثر من جولة قبل أن تهبط في المطار، تتيح لك فرصة مشاهدة أروع منظر يمكن أن تطل عليه عين من الجو.
مآذن عديدة تعكس الشمس ألوانها الزاهية، وخضرة منتشرة في كل مكان، وميادين رحبة، وتربة صفراء.
وعندما تمشي في شوارعها تشعر بأنك تعيش مع ألفي سنة من التاريخ، أو ثلاثة آلاف سنة، إذ تقول أسطورة فارسية أن أصفهان بناها (تحمورش) الذي هزم ديفس وجيش العمالقة، وتفتش عن بقايا نبوخذ نصر والإسكندر.
ويروون أسماء عديدة لأصفهان: أسبانادا، سافاهان، سياهان، سياهيان، ولكن أصفهان هو الاسم الذي بقي لها من جميع ما أطلق عليها من أسماء. وقد أطلق عليها هذا الاسم سنة 644 مع الفتح الإسلامي. ومنذ ذلك الحين بقي هذا الاسم سائداً، واحتفظت المدينة بطابعها الإسلامي وهندستها الإسلامية، وخلال ألف سنة تعاقب خلالها على حكم إيران العرب والمغول والأتراك والأفغان والحكام الفارسيون ترك هؤلاء آثارهم وما يدل عليهم. ولكن الحقيقة الدائمة هي أن أصفهان مدينة الصفويين وعاصمتهم، كانت أبهى أيامها في حكم الشاه عباس الكبير الذي جعل منها عاصمة حكمه في العام 1590. وشهدت أصفهان أياماً بيضاء كثيرة وأياماً سوداء أكثر. كانت عاصمة بعض الحكام المحليين، وكانت عاصمة إمبراطورية السلجوقيين (من أيام ملك شاه 1041 حتى أيام محمد شاه 1117) ولكنها دفعت الثمن أيام فتح جنكيزخان وهولاكو.
ميدان التاريخ:
وعندما تقف في الميدان الكبير، ميدان شاه، قلب أصفهان، تشعر وكأنك مكان الشاه عباس، وفي الميدان نفسه الذي كانت تجري فيه ألعاب الفروسية والبطولة، وكان يشهد استعراض الأسرى أو تعذيب المتآمرين.
وفي أطراف الميدان، روائع الهندسة القديمة وعجائبها، فإذا التفت يميناً وقعت على أثر، وإذا التفت يساراً شمخت وأنت تتأمل مئذنة ترتفع أكثر من خمسين متراً في السماء.
وولد هذا الميدان مع مولد المدينة، وأروع ما قيل فيه تضمنته الشاهنامة التي نظمها الفردوسي في القرن الحادي عشر، ويبلغ طوله أكثر من نصف كيلو متر وعرضه مائة وستين متراً. وفي جنباته، بوابة السوق القديمة، ومسجد الشيخ لطف اللّه الذي أعيد ترميمه سنة 1611 والمبنى المشهور باسم علي قابو، ومسجد شاه.
وفي شرفة مبنى علي قابو كان يجلس الشاه عباس الكبير وحوله ضيوفه لمشاهدة الألعاب الفروسية والرياضية والرقصات الشعبية الفارسية.
أجمل مسجد في العالم:
والحقيقة التي يعترف بها الجميع أن مسجد شاه هو أجمل مسجد في العالم، وتعتبر واجهته التي ترتفع 48 متراً من أروع القطع الفنية، بألوانها الزاهية، وزخرفتها الأنيقة، وهندستها الرائعة وشكلها البديع. كما ترتفع فوقها مئذنتان إلى علو 52 متراً.
وقد استغرق بناء هذا المسجد 18 سنة (من 1612 إلى 1630) وجيء بالمرمر الذي استعمل في بنائه من أردستان التي تبعد مائة ميل عن أصفهان ولا يزال هذا المرمر يحتفظ بلمعانه حتى اليوم، وكأنه قطع من المرايا الصافية.
وفي المسجد ثلاث باحات للصلاة، وهناك باحة في الهواء الطلق، والباحات الثلاث الأخرى داخلية، وجميع الباحات حافلة بالنقوش البديعة، كما كتبت على الجدران الآيات القرآنية الكريمة.
والأعجوبة الهندسية في هذا المسجد تكمن تحت قبته العالية، إذ تقف تحتها فتصفق مرة واحدة، وإذا بالصدى يعيد الصوت سبع مرات.
والكثيرون يقفون تحت القبة ويصرخون «يا اللّه» فإذا بالصدى يكرر «يا اللّه سبع مرات».
أقرب مكان للإيمان:
أما مسجد الشيخ لطف اللّه فإنه يستجلب النظر لسببين:
أولاً: لأنه مسجد بدون مئذنة.
وثانياً للون العاجي الزاهي الذي يكسو قبته، والنقوش البديعة من حوله، والخطوط الجميلة التي كتبت بها الآيات القرآنية، وقد بنى هذا الجامع الشاه عباس تكريماً للشيخ لطف اللّه، فحمل المسجد اسمه وكان هذا المسجد مخصصاً في البداية للنساء، ولكنه فيما بعد أصبح طابقين: طابق تحت الأرض للنساء وطابق فوق الأرض للرجال.
والشعور الذي ينتاب زائر مسجد الشيخ لطف اللّه هو الشعور الدافق بالإيمان، حتى أن أحد شعراء فارس قال:
«داخل مسجد الشيخ لطف اللّه شعرت بأني قريب جداً من اللّه».
وعلى الرغم من مرور 350 سنة على بنائه فإن ألوانه وبناءه لا تزال الآن كما كانت في الماضي لم يطرأ عليها تبديل أو اهتراء، رغم حرارة الطقس في الصيف وسقوط الثلوج في الشتاء.
موسيقى في الطابق السابع:
وفي وسط ميدان شاه يقف مبنى علي قابو، المكان المفضل عند السلاطين الصفويين، وقد بناه الشاه عباس في القرن السادس عشر لينزل فيه ضيوفه من الأجانب، ثم جعله قصره يستقبل فيه السفراء والعظماء والزوار ويقيم فيه حريمه.
وقد زينت جدرانه بلوحات أنيقة جميلة، تعطي صورة صادقة عن فن الرسم الفارسي، ومعظمها يعكس فكرة الحب، وعندما جاء الحكم القاجاري قام بتغطية هذه الرسوم والنقوش. ولكن الحكم البهلوي أعاد النقوش إلى ما كانت عليه.
وهذا المبنى الذي يبدو من الخارج طابقين له ثلاثة مداخل، اثنان للنساء وواحد للرجال وسلمه يتألف من 117 درجة، وهو في الواقع سبعة طوابق وأطراف وأغرب ما فيها الطابق السابع، الذي يبدو سقفه على هيئة آلات موسيقية مجوفة في الجدران والسقف.
وهذا الطابق كان طابق الانشراح والمرح عند الشاه عباس، وكان الموسيقيون يدخلون إلى غرفة خاصة في هذا الطابق ويعزفون الألحان التي يفضلها الشاه، ويخرجون بعد ذلك ويقفلون الباب وراءهم. وعندما يأتي الشاه عباس يفتح الباب ويجلس مع ندمائه ونسائه، فيعيد الصدى ما عزفه الموسيقيون، ويستمر الطرب والانشراح إلى أن يقفل الباب فتسكت الموسيقى.
ولا تزال هندسة غرفة الموسيقى سراً مغلقاً على الكثيرين، إذ كيف كانت تحتفظ هذه الغرفة بالأنغام ثم تعيدها؟
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان