من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

مولد رسول اللّه صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم (2)

في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلّم؟

لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على أن ولادة النبيّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.

لأنه صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم رحل إلى ربه عام (632) ميلادية عن (62) أو (63) عاماً، وعلى هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً.

كما أنّ أكثر المحدثين والمؤرخين يتفقون على أنه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ولدَ في شهر ربيع الأول.

إنما وقع الخلاف في يوم ميلاده، والمشهور بين محدّثي الشيعة أنه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر.

والمشهور بين أهل السنة أنه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر(1).

 

أيُّ هذين القولين هو الصحيح؟

إن من المؤسف جدًّا أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ووفاته بل مواليد ووفيات أكثر قادتنا وائمتنا لمثل هذا الارتباك، وأن لا تكون أوقاتها وتواريخها محددةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!.

ولقد تسبب هذا الارتباك في أن لا تستند أكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعي، في حين نجد أن علماء الإسلام كانوا يهتمون ـ عادة بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص وعناية كبيرة، ولكننا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق، وصورة قطعية؟!

على أن مثل هذه المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهم ‌السلام، فإن أي مؤرخ لو أراد أن يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات وأراد أن يُلمّ بكل تفاصيلها ودقائقها لم يسمح لنفسه بأن يفعل ذلك من دون أن يراجع أبناء أو أقرباء تلك الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها.

ولقد مضى رسولُ اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم أهل البيت.

وأهل بيته يقولون: لو كان صحيحاً وحقا إن رسول اللّه صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم أبونا وجدنا، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فاننا نقول إنه قد ولد يوم كذا وتوفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين، وقديماً قالوا: أهل البيت أدرى بما في البيت؟ (2).

 

فَتْرَةُ الحَمْل 

المعروفُ أن النورَ النبوي الشريف استتقر في رحم آمنة ـ الطاهر في أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة (3)، ولكن هذا الأمر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة النبيّ الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في شهر ربيع الأول، إذ في هذه الصورة يجب أن نعتبر مدة حمل «آمنة» به صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم إما ثلاثة أشهر وإما سنة وثلاثة أشهر، وكلا الأمرين خارجان عن الموازين العادية في الحمل، كما أنه لم يعدّهُ أحدٌ من خصائص النبيّ صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم (4).

ولقد عالَج المحققُ الكبير الشهيد الثاني (911 ـ 966 هـ) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال:

إن ذلك مبنيّ عَلى النسيّ الّذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وقد نهى اللّه تعالى عنه، وقال: «إنَّما النسيُّ زيادَةٌ في الكُفْر».

وتوضيح هذا هو أن أبناء «إسماعيل» كانوا تبعاً لأسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة، ولكنهم رأوا ـ في ما بعد ـ أن يحجّوا في كل شهر عامين يعنى أن يحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وفي صفر عامين وهكذا.

وهذا يعني أن الحج يعود كل أربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي (أي شهر ذي الحجة).

وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحج النبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم في تلك السنة حجة الوداع، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة (الّتي تسمى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده) فقال: «ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنة إثنا عشَرَ شَهراً، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثٌ مَتوالِياتٌ: ذوالقعدة وذوالحجة، ومحرَّم، ورجَب الّذي بَين جمادي وشعبان» (5).

وقد أراد صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم بذلك أن الأشهر الحرم رجَعت إلى مواضعها، وعاد الحُج إلى ذي الحجة وبَطل النسيء.

ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه تعالى: «إنَّما النسيء زيادَةٌ في الكُفْر يُضَلُّ بِهِ الذَّينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عاماً ويحرِّمُونهُ عاماً» (6).

من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلَ سنتين من مواضعها، على ما عرفت، وحينئذ لا منافاة بين القول بأن نور النبيّ انتقل إلى رحم أمه «آمنة بنت وهب» في أيام التشريق، وبين ما أجمع عليه عامة المؤرخين من أنه وُلدَ في شهر ربيع الأول. وإنما تكون المنافاة بين هذين الأمرين إذا كان المراد من أيام التشريق هو اليومُ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصة، ولكن قلنا إن أيام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى آخر باستمرار، فيلزم أن يكون عام حمل أمّه به، وعام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الأولى، وحيث أنه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وُلدَ في شهر ربيع الأَول فتكون مدَة حمل «آمنة» به عشرة أشهر تقريباً.

 

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان:

إن النتيجة الّتي توصّل اليها المرحومُ «الشهيد الثاني» ليست صحيحة، كما أن المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد، وأما الآخرون فقد فسَّروهُ بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ قوياً، وذلك:

أوّلاً: لأن «مكة» كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً، ولا يخفى أنَّ تغيير الحج في كل سنتين مرةً واحدةً من شأنه أن يسبب الالتباس لدى الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم، وتلك العبادة الجماعية إلى خطر الزوال.

ولهذا يُستَبعد أن ترضى قريش والمكيّون بأن يخضع ما هو وسيلة لعزتهم وافتخارهم للتغيير والتبدل الّذي من عواقبه أن يتعرض وقته وموعده للنسيان، فيذهب ذلك الاجتماع، ويزول من الأساس.

ثانياً: إذا أخضَعنا ما قاله «الشهيد الثاني» لمحاسبة دقيقة فإن كلامه يستلزم أن تكون أيام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادى الأولى في حين أن أمير المؤمنين عليّاً عليه ‌السلام كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في أيام الحج، والمفسرون والمحدثون متفقون على أنه عليه‌ السلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم أمهلهم أربعة أشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة (7).

ثالثاً: إن النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الأغلب، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب، في الأشهر الحرم الثلاث (وهي ذوالقعدة وذوالحجة، والمحرم ) لهذا ربما طلبوا من سدَنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم، ثم يتركون الحرب في شهر صفر، وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم، وفي الآية نفسها إشارةٌ إلى هذا المطلب: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحرِّمُونَهُ عاماً».

والّذي نراه في حل هذه المشكلة هو: أن العرب كانوا يحجُّون في وقتين: أحدهما شهر ذي الحجة، والثاني شهر رجب، وقد كانوا يؤدُّون كلّ مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل «آمنة» برسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في أيام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الأول كانت مدة حمل «آمنة» به ثمانية أشهر وأياماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1).. وقد ذكر المقريزي في « الامتناع » ص 3 جميع الأقوال المذكورة في يوم ميلاد النبي وشهره وعامه، فراجع.

(2). ومن هنا لابد من الاعتراف بأن ما ينقله ويكتبه الإمامية من تفاصيل تتعلق بحياة رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم هي أقرب من غيرها إلى الحقيقة لأنها مأخوذة عن أقربائه وأبنائه عليهم ‌السلام.

(3). الكافي : ج 1 ، ص 439 أبواب التاريخ باب مولد النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ووفاته.

(4). قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولاً بهذا لم يُسمّ قائله.

(5). مجمع البيان : ج 5 ، ص 29.

(6). التوبة : 37.

(7). ولقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج 15 ، ص 253 بهذه المحاسبة، وإن لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه فليراجع.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد