من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

آسية بنت مزاحم المرأة الشهيدة

لقد كانت آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون - كما يقول المجلسي - «امرأة من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة ومخلصة وكانت تعبد الله سراً.

 

وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل، فعاينت حينئذٍ الملائكة يعرجون بروحها، لما أراد الله بها من الخي ، فزادت يقيناً وإخلاصاً وتصديقاً. فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون، يخبرها بما صنع بها.

 

فقالت: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا.

 

فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك؟.

 

فقالت: ما اعتراني جنون، لكن آمنت بالله، ربي وربك ورب العالمين.

 

فدعا فرعون أمها، فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت، أو لتكفرن بإله موسى.

 

فخلت بها أمها ، فسألتها موافقة [فرعون] فيما أراد، فأبت، وقالت: أما أن أكفر بالله، فلا والله لا أفعل ذلك أبداً.

 

فأمر بها فرعون حتى مدّت بين أربعة أوتاد، ثم لا زالت تعذب حتى ماتت، كما قال الله سبحانه: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ)  (1).

 

وعن ابن عباس: «قال: أخذ فرعون امرأته آسية، حين تبين له إسلامها يعذبها لتدخل في دينه، فمر بها موسى (عليه السلام) وهو يعذبها، فشكت إليه بإصبعها، فدعا الله موسى أن يخفف عنها، فلم تجد للعذاب مسّاً، وإنها ماتت من عذاب فرعون لها.

 

فقالت وهي في العذاب: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (2).

 

فأوحي إليها: أن ارفعي رأسك، ففعلت، فأُريت البيت في الجنة بني لها من درّ، فضحكت. فقال فرعون: انظروا إلى الجنون الذي بها، تضحك وهي في العذاب (3).

 

وقيل: إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى (عليه السلام)، ووقوع الغلبة على السحرة، أسلمت.

 

فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها، فأبت. فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس. ثم أمر أن يُلقى عليها صخرة عظيمة، فلما قرب أجلها قالت: ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (4). فرفعها الله تعالى إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب...

 

وقيل: إنها كانت تعذب بالشمس، وإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وجعلت ترى بيتها في الجنة.. (5).

 

للبيان والتوضيح:

 

ولتوضيح بعض ما يرتبط بهذه المرأة المجاهدة الصابرة، آسية بنت مزاحم الشهيدة، نذكر هذا المقطع من كتاب: «مأساة الزهراء» فنقول:

 

1 - إن آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل، هو فرعون بالذات.

 

2 - وفرعون هذا هو الزوج المهيمن والقوي، وهو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية.

 

3 - وفرعون الرجل والزوج، لا يملك شيئاً من المثل والقيم الإنسانية والرسالية، ولا يردعه رادع عن فعل أي شيء، وفي أي موقع من مواقع حياته، فهو يسترسل مع شهواته وطموحاته ومصالحه، بلا حدود ولا قيود، ودونما وازع أو رادع.

أما آسية فعلى النقيض من ذلك، ترى نفسها محكومة لضوابط الدين والقيم والمثل، وهي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها، ولا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها.

 

4 - وفرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده وذاته، حتى ليدعي الربوبية، ويقول للناس: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)  (6)، فلا يرى أن أحداً قادر على أن يخضعه، أو أن يملي عليه رأيه وإرادته، بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه وطموحاته.

 

فرعون هذا تتحداه امرأته!! في صميم كبريائه، وفي رمز استكباره وعلوه وعنفوانه وعمق طموحاته، في ادعائه الربوبية، وفي كل ما يرتكبه من موبقات، وما يمثله من انحراف.

 

5 - وفرعون ملك لديه الجاه العريض، وغرور السلطان وعنجهيته وجاذبيته وعنفوانه وزهوه. وما أحب تلك المظاهر الخادعة إلى قلب المرأة، وما أولعها بها.

 

وإذا كانت المرأة تميل إلى الزهو، فإنها إلى زهو الملك العريض أميل، وإذا كان الجاه العريض يستثيرها، فهل ثمة جاه كجاه السلطان، فكيف وهو يدعي الربوبية لنفسه؟!

 

6 - أما المغريات فهي بكل صنوفها، وفي أعلى درجات الإغراء فيها، متوفرة لفرعون، فلديه الدور والقصور، والبساتين، والحدائق الغناء، ولديه اللذائذ والأموال، والخدم والحشم، ولديه الزبارج والبهارج وزينة الحياة الدنيا.

 

وهل ثمة أحب إلى قلب المرأة من القصر الشاهق، ومن الأثاث الفاخر واللائق، ومن وصائف كالحور، وغير ذلك من بواعث البهجة والسرور؟!

 

7 - وعند فرعون الرجال والسلاح، وكل قوى القهر والتسلط والجبروت والهيمنة، ولذلك أثره في بث الرهبة، والرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد والخلاف.

 

8 - وعند فرعون أيضاً المتزلفون والطامعون والطامحون، الذين هم وسائله وأدواته الطيعة، التي تحقق رغباته، وتلبي طلباته، مهما كانت، وفي أي اتجاه تحركت.

 

9 - وهناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية. والجهل الذريع، والافتتان الطاغي بالحياة الدنيا، هذا الواقع الذي تفوح منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية، وتنبعث فيه الأهواء، وتضج فيه الجرائم.

 

10 - وفي محيط فرعون، تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة وحاضرة من أجل لذة غائبة عنها، مع أن الإنسان كثيراً ما يرتبط بما يحس ويشعر به، أكثر مما يرتبط بما يتخيله أو يسمع به، بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة إلى لذة أخرى مماثلة لها، فكيف يؤثر الانتقال إلى ما هو غائب عنه، ولا يعيشه إلا في نطاق التصور والأمل بحصوله في المستقبل، ثقة بالوعد الإلهي له.

 

بل إنها (عليها السلام) تريد أن تستبدل لذة وسعادة ونعيماً حاضراً بألم وشقاء وبلاء، بل بموت محتم لقاء لذة موعودة.

 

11 - وبعد ذلك كله، إن هذه المرأة لا تواجه رجلاً كسائر الرجال، بل تواجه رجلاً عُرف بالحنكة والدهاء والذكاء.

 

فكما كان عليها أن تواجه استكباره وسلطانه وبغيه وكل إرهابه وإغرائه، فقد كان عليها أيضاً أن تواجه مكره وأحابيله وتزويره، وأساليبه الذكية الخداعة، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه.

 

وقد ظهرت بعض فصول هذا الكيد والمكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى (عليه السلام )، ومع السحرة الذين جاء بهم هو، فآمنوا بإله موسى (عليه السلام ).

 

خلاصة:

 

كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون، التي هي من جنس البشر، ومن لحم ودم، لها ميولها، وغرائزها، وطموحاتها، ومشاعرها، وأحاسيسها.

 

وقد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر وثبات، ولم تكن تملك إلا نفسها، وقوى إرادتها، وقويم وعيها، الذي جعلها تدرك: أن ما يجري حولها هو خطأ وجريمة وانحراف وخزي، فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة والإيمان، وواجهت كل وسائل الإغراء والقهر، ولم تبال بحشود فرعون ولا بأمواله، ولا بجاهه العريض، ولا بزينته ومغرياته، ولا بمكره وحيله وحبائله.. وطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لها سبل النجاة من فرعونية فرعون، ومن أعمال فرعون، ومن محيط القوم الظالمين. ولم يؤثر شيء من ذلك كله، من البيئة والمحيط وغير ذلك، في زعزعة ثقتها بدينها وربها، أو في سلب إرادتها، أو في سلامة وصحة خيارها واختيارها.

 

وكان دعائها: (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (7). فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون، وعن ممارسات فرعون نجاة، وتعتبر الابتعاد عن دنس الانحراف والخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضاً.. وهي لا تريد من الله قصوراً ولا زينة، ولا ذهباً ولا جاهاً، بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى. المعبر عنه بكلمة: (عِنْدَكَ)، وبمقام الرضا، على قاعدة: «رضا الله رضانا أهل البيت»، كما قالت زينب (عليها السلام).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج 13 ص 164.

(2) سورة التحريم، الآية 11.

(3) بحار الأنوار ج 13 ص 164. عن عرائس الثعلبي ص 106 و 107 طبع مصر.

(4) سورة التحريم، الآية 11.

(5) بحار الأنوار ج 13 ص 164 و 165 عن مجمع البيان ج 10 ص 319.

(6) سورة النازعات، الآية 24.

(7) سورة التحريم، الآية 11.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد