صيرورة الإمامة الإلهية للإمام محمد بن علي الجواد بعد أبيه علي بن موسى الرضا عليهما السلام، كانت أمراً متميزاً، فلأول مرة في تاريخ الإمامية، منذ ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى سنة 203 ه أي نحو قرنين من الزمن، يكون إمام الخلق صغيرَ السن بهذا المقدار (ابن ثمان سنين) في أول توليه الإمامة! هذا الأمر جعل مواقف الناس والسلطة مختلفة تجاه الاعتقاد به، وقبول ذلك.
أما السلطة العباسية: فمن الواضح أنها لم تكن تعتقد بإمامته ولا بإمامة آبائه، ولكن مع ذلك كانت تسلّم لآبائه بالفضيلة العلمية، وبالزعامة الاجتماعية لبني هاشم وللشيعة، وكانت تتعامل معهم على هذا الأساس.
وهذا الأمر لم تُقرّ به بالنسبة للإمام الجواد، فباستثناء المأمون العباسي، كان أركان البيت العباسي لا يرون للإمام الجواد فضيلة علمية وإنما يعتبرونه طفلاً كسائر الأطفال ينبغي أن يتعلم ويدرس في الكتاب وعلى يد العلماء الكبار حتى يشتد عوده، وعندئذ يتعامل معه كما يتعامل مع العلماء.. ولذلك فإنهم قد احتجوا على المأمون عندما قربه وأراد تزويجه ابنته بهذا المعنى من أنه صغير السن ويحتاج إلى النضج. وعندما لم يقبل منهم المأمون انتقاده لجأوا إلى (امتحان) الإمام بواسطة يحيى بن أكثم في القصة المشهورة.
ومع أن الإمام عليه السلام قد فاق يحيى بن أكثم أمامهم وأجاب على أسئلته وأعجز يحيى أن يجيب على أسئلته إياه، إلا أن ذلك وغيره لم يكن كافياً ليعترفوا للإمام، كيف وهم لم يعترفوا لأبيه الإمام الرضا مع ظهور مناقبه ومعاجزه أمامهم ولمدة طويلة من الزمان؟!
وسر ذلك - لعله - ما عبر عنه المأمون نفسه - لو صحت نسبة الكلام إليه - من قوله لهم: أنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأما ما كان يفعله من كان قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرحم!
إلا أن المحيّر عند البعض هو موقف المأمون العباسي من الإمام، فمن جهةٍ ها هو يناظر علمياً عن التشيع ويشيد بفضل أمير المؤمنين علي عليه السلام ويناظر علماء الاتجاه الرسمي في أن عليًّا بن أبي طالب هو الأفضل بعد رسول الله، بل ويعتقد - ولو نظرياً - أن أهل البيت قد خصهم الله بخصائص لم توجد في غيرهم، وفي المقابل وجدناه يقتل الإمام الرضا عليه السلام بالسم؟ وربما لولا أن الإمام عليًّا الرضا قد أخبره بأن موته - المأمون- وموت الجواد متزامنان ومتجاوران كإصبعيه، ربما كان يقدم على اغتيال الامام الجواد سريعًا!
وقد فسر الشيخ الكوراني في كتابه الإمام محمد الجواد الأمر بما يلي:
أ/ إنه يدخل ضمن الصراع السياسي داخل الأسرة العباسية ويستخدمه المأمون كورقة ضغط عليهم بما يعني أنكم إن لم تلتفوا حولي ستذهب الخلافة منكم.
ب/ فيما يرتبط بالجانب الفكري يرى الشيخ الكوراني أن المأمون كان يسعى إلى نظام عباسي بمذهب شيعي علوي، ورأى أنه قام بخطوات عملية في هذا فكتب منشوراً في البراءة من معاوية ولكنه لم يعلنه خوفاً من الاتجاه العام وبقي هذا المنشور إلى أن أخرجه المعتضد العباسي.
ج/ وفي نهاية الأمر يلخص موقف المأمون بأنه كان شيعياً من الناحية النظرية، وعدوًّا لأئمة العترة وشيعتهم عملياً.
وأما أسوأ المواقف فهو موقف المعتصم العباسي الذي خلف أخاه المأمون في الخلافة والحكم، فإنه بطبيعته المبنية على الجهل وكره المعارف العلمية... فلم يكن تفوق الامام الجواد العلمي يعني شيئًا بالنسبة له، بالإضافة إلى ما تطبع عليه من نشأة عسكرية كما يذكر المؤرخون، فلم يكن يمارس أي نوع من المداراة والتعامل الحسن مع الإمام الجواد خاصة وأنه كان يصنفه على (أعدائه) ومنافسي حكمه وعائلته، فكان أن اتخذ مواقف متشددة من الإمام عليه السلام انتهت باغتيال الإمام...
وكان وزراء الدولة ومؤسساتها تتجه باتجاه بوصلة الحاكم والخليفة من التراخي النسبي أو التشدد الكثير! وأما بالنسبة لعامة المسلمين من غير شيعة أهل البيت عليهم السلام؛ فإننا لا نلحظ اهتماماً استثنائياً بقضية الإمام الجواد وتصديه للإمامة في ذلك العمر، لو استثنينا بعض العلماء والفقهاء المرتبطين بالدولة، والذين هم في مشروعها فمن الطبيعي أن تكون مواقفهم - العلنية على الأقل - متأثرة بوظائفهم، ولذلك كان بعضهم يدخل برغبة أو بدونها في محاولات (إحراج) الإمام بالأسئلة الصعبة فيما يظن!
أما عامة الناس فقد تم فصلهم عن هذا الموضوع في وقت مبكر، بعدما اختار مذهب مدرسة الخلفاء أن الإمام وولي الأمر هو الحاكم السياسي المسيطر بغض النظر عن قابلياته وأهليته الذاتية! وهذا الأمر قد تم (تطبيع) عامة الناس عليه من أيام الأمويين، فالإمام هو الذي يملك الصولجان، وولي الأمر هو السلطان بل حتى لو اختلف أكثر من واحد، فالخليفة وولي الأمر هو القوي المنتصر الذي يحسم المعركة ويخطب الجمعة!
وبالتالي فهم لا يفتشون عن علامات الإمام أو مواصفاته، أو قابلياته لا سيما وأن بالإمكان (صناعة) كل ذلك من خلال الإعلام وخطب الجمعة وهكذا.. ولذلك - والله العالم - كان أفراد العامة هؤلاء لا يرون أنفسهم معنيين كثيراً بالبحث عن الإمام الحق، وعن علاماته فإمامهم معروف وهو الذي يحكم!
وأما شيعة أهل البيت عليهم السلام؛ فيمكن لنا أن نلاحظ هذه المواقف:
أولا: موقف المسلّمين المؤمنين بإمامة الجواد عليه السلام، ويعتمد تسليمهم هذا على أساس أن الإمامة الإلهية كما هي النبوة ليست خاضعة للمقاييس البشرية بالضرورة، فكما يجوز أن يبعث الله نبيًّا بل أنبياء وهم صغار السن كذلك لا مانع أن يجعل أئمة في نفس هذا العمر. وما هو مستبعد بادئ النظر فإنما هو لأجل عدم الاعتياد عليه لا لأنه مستحيل في نفسه أو يلزم منه محذور! وعدم الاعتياد هذا يمكن أن يكون مع أول نبي أو أول إمام فإذا تكرر زال الاستيحاش والاستبعاد. وخصوصاً مع تأكيد الإمام السابق بل السابقين على أنه سيحدث هذا وسيكون امتحاناً للناس!
ويمثل هذا الموقفَ بشكل متميز: عليٌّ بن جعفر الصادق عليه السلام، فإنه مع جلالة قدره علمًا وعلو نسبه شرفًا وموقعه بين الشيعة، كان يظهر ويعلن اعترافه بإمامة الإمام الجواد وتسليمه له، مع كون الإمام الجواد أصغر منه بنحو 47 سنة، وكونه عمًّا لأبيه عليٍّ الرضا عليه السلام: «فعن محمد بن الحسن بن عمار، قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه الكاظم عليه السلام إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام المسجد مسجد الرسول صلى الله عليه وآله، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبل يده وعظمه فقال له أبو جعفر: يا عم اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم! فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: اسكتوا! إذا كان الله عز وجل، وقبض على لحيته، لم يُؤَهِّلْ هذه الشيبة وأَهَّلَ هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكرُ فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد»!
ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد منه بل تكرر مع آخرين، وبالفعل فقد كان الأمر ملفتاً أن يكون شخص في نحو الخامسة والخمسين مع ما هو عليه من الفضل والمنزلة يقبل يد فتى عمره تسع سنوات! ويسوي له حذاءه كما في روايات أخر، والأرجح أنّه كان يتعمد التظاهر بذلك لبيان منزلة الإمام الجواد وعظمة شأنه أمام سائر الشيعة.
ويظهر أن موقف التسليم والإيمان بإمامة الجواد عليه السلام كان موقف عامة الشيعة، وإن كان بعضهم لا يظهره بالنحو الذي أظهره الفقيه علي بن الإمام جعفر الصادق آنف الذكر، ولكن استقرار الأمر للإمام بعد فترة يسيرة من شهادة أبيه الرضا يشير إلى هذه الحقيقة، كما يشير إليها أن أهم أصحاب أبيه كانوا أصحابه والرواة عنه. هذا إذا استثنينا رجال الواقفية...
ثانيًا/ الواقفة والمتنكرون لإمامته: كانت هناك أقلية أصرت على الوقف وعدم الإيمان بالإمام الرضا عليه السلام، وهؤلاء كان من الطبيعي أن لا يؤمنوا بإمامة الإمام الجواد ما داموا لا يعتقدون بأبيه، فإن النص على الجواد وتنصيبه للإمامة هو من أبيه الرضا، وهم لا يعتقدون به!
وكان مقتضى الإنصاف أن لو كانوا في شبهة أن تزول هذه الشبهة؛ فإنهم زعموا أن الإمام عليًّا الرضا لما لم يولد له مولود فهو عقيم فإذن لا يكون إمامًا لأن الإمام لا يكون فيه نقص! مقتضى الإنصاف أن يتراجعوا عن هذا بولادة الإمام الجواد وأن يتوبوا عن مقالتهم، ولكنهم {جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارا}. هذا فضلًا عما برز منه من العلوم التي برز نظيرها من آبائه المعصومين!
بل أكثر من ذلك فإن بعض الواقفة الذين اعترفوا لأخي الإمام الرضا أحمد بن موسى بالإمامة، كان ينبغي أن يرجعوا للإمام الرضا بعدما قام الشريف أحمد بن موسى نفسه مع والدته أم أحمد إلى بيت الإمام الرضا وأعلن أنه - هو وجميع من بايعه - في بيعة أخيه؛ لكنهم لم يفعلوا ذلك.
ثالثًا: ربما نجد بين هاتين الفئتين بعض الأسماء كان له نحو توقف أو تساؤل أو تفكير في أمر إمامته عليه السلام، لكنهم ما لبثوا أن استقر إيمانهم، ورأوا عين اليقين، وقد يلتمس العذر لمثلهم فإن بعض (المقدمات التي يستبعدها بادئ النظر والرأي) مثل أنه كيف يعطي الله الإمامة لصبي؟ أو كيف يحيط هذا الصبي بالعلم الإلهي أو غير ذلك.. من شأنها أن تجعل بعض الأشخاص يتوقفون عن المسارعة للإيمان به! ولكنهم مع شيء من التفكير والتروي ومشاهدة الإحاطة العلمية له، والكرامات العملية سيعلمون {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}.
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
السيد جعفر مرتضى
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطهراني
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ باقر القرشي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الفلسفة، أهدافها ومراكزها
الاعتقاد بعقل الآخرين
الإمام الجواد (ع) ومحنة الإمامة
الإمام الجواد (ع) الزعيم والقائد والوصي
إمامة الجواد عليه السلام ظاهرة وإعجاز
مواقف تجاه إمامة الجواد عليه السلام
كيف ينشأ العلم الإجمالي؟
موجز عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية
القرآن دواء ناجع لكل الأمراض الاجتماعية والأخلاقية
التآصر الوثيق بين القرآن والعترة