واجه المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول (ص) فتنة عارضة ذات طابع سياسي محض هي فتنة السقيفة. وقد بدأت هذه الفتنة حين تجاوز بعض كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وصية رسول الله (ص) بإسناد الخلافة بعده إلى الإمام علي بن أبي طالب، لأنه كان الشخصية الإسلامية الوحيدة التي تجمعت فيها المواهب والمؤهلات التي جعلتها قادرة على قيادة الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (ص).
وقد حسم النزاع على منصب الخلافة بين المهاجرين والأنصار، في سقيفة بني ساعدة (1)، بمعزل عن الإمام علي بن أبي طالب، لمصلحة قبيلة قريش، بمبايعة الخليفة الأول (أبي بكر) على أثر مناورات سياسية استخدم فيها منطق قبلي، وكادت تؤدي إلى انشقاق خطير داخل المجتمع الإسلامي الوليد (2).
وقد كان العامل الأكبر والأبعد أثرًا في التغلب على فتنة السقيفة وآثارها الخطيرة هو موقف علي بن أبي طالب. فقد كان الإمام علي بمؤهلاته المتفوقة بشكل مطلق على نخبة الصحابة، وبمواهبه النادرة الفريدة، وبالنص عليه من رسول الله (ص) خليفة من بعده... كان لذلك كله رجل الشرعية الإسلامية الأصيل.
وكان هذا الوضع الحقوقي المؤاتي بالنسبة إليه يخوله حق المعارضة، ونقض القرار والإنجاز الذي اتخذ خارج الشرعية في اجتماع السقيفة، سعيًا وراء حقه في تسلم السلطة.
ولكن هذا الوضع الحقوقي النظري بالنسبة إليه، كان يواجه وضعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واقعيًّا. فمن ناحية كان المجتمع الإسلامي الوليد لا يزال مجتمعًا هشًّا من حيث التلاحم الداخلي الناشئ عن العقيدة الواحدة، لأن القيم الجاهلية كانت لا تزال سائدة في الحياة العامة للقبائل التي دخلت في الإسلام في عام الوفود قبل وفاة النبي (ص) بسنة وأشهر - أو أقل من سنة بالنسبة إلى إسلام بعض هذه القبائل - وكانت هذه القيم الجاهلية في أحسن الحالات مستكنة تحت قشرة رقيقة من الإسلام، وكان لا بد من مضي وقت طويل قبل أن تذبل هذه القيم الجاهلية وتفقد حرارتها وفاعليتها.
وفي حالة كهذه كان أي عمل سياسي يتسم بطابع العنف سيؤدي في الراجح إلى تصدع خطير في بنية المجتمع الإسلامي وتماسكه، وقد يؤدي إلى ردة واسعة النطاق في أوساط حديثي العهد بالإسلام. ومن ناحية أخرى كان فريق من القبائل قد ارتد فعلًا عن الإسلام، واتبع بعض أدعياء النبوة، وغدا يشكل تهديدًا حقيقيًّا للإسلام حين انتشرت ظاهرة التنبؤ واتجه قادتها إلى تحالف يوحد قواهم، فسيطروا على اليمن تقريبًا في الجنوب، وعلى مساحات واسعة من الحجاز ونجد في الشمال.
وقد اتجه الإمام علي إلى المعارضة والاحتجاج أول الأمر. ورفض الاعتراف بالنتيجة التي أسفر عنها اجتماع السقيفة، واعتصم في منزله، وبدا بوضوح أن موقفه سيثير تفاعلات خطيرة في وجه اختيار السقيفة داخل المدينة وخارجها... ولكن الإمام عليًّا سرعان ما واجه الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع الإسلامي الوليد، والأخطار التي ربما تعرض لها الإسلام نفسه نتيجة لهذا الموقف.
ولو لم يكن علي بن أبي طالب رجل العقيدة الأول، ورجل الرسالة الأول، الأكثر وعيًا والأعظم شعورًا بالمسؤولية، لما ألقى بالًا إلى الواقع السياسي والاجتماعي للإسلام، ولمضى في معارضته إلى نهايتها، مستغلًّا الواقع السياسي والاجتماعي في سبيل نجاح مسعاه للوصول إلى السلطة.
ولكنه كان بالفعل رجل العقيدة الأول، ورجل الرسالة الأول، وأعظم المسلمين إطلاقًا شعورًا بالمسؤولية تجاه الإسلام، وأعظمهم حرصًا على ازدهاره وانتشاره وتعمقه في العقول والقلوب.
ومن المؤكد أن الحكم عنده لم يكن مطلبًا شخصيًّا، بل وسيلة إلى بلوغ غاية تتجاوز الأشخاص والأجيال والمصالح الخاصة لتعم وتشمل ما بقي من عمر الدنيا، وما تضمره القرون المقبلة من أجيال في كل الأوطان وفي كل الأمم.
إن عليًّا، بعد رسول الله (ص) - كان أب الإسلام. وقد تصرف تصرف الأب الحريص، فتحمل بصبر جميل نبيل جراحه الشخصية وحرمانه في سبيل قضية حياته الكبرى، قضية الإسلام. ولا شك في أن جميع المسلمين كانوا يعرفون هذه الحقائق في شخصية وضمير الإمام علي، ويبدو أن منافسيه السياسيين قاموا بمغامرتهم الناجحة (3) معتمدين على جملة معطيات من جملتها ثقتهم بأن الإمام سيقدم مصلحة الإسلام العليا على مصالحه الخاصة.
لقد أشار الإمام في كتاب له بعث به إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها، إلى العامل السياسي الذي حال دون مضيه في المعارضة، فقال: . . . فأمسكت يدي (4) حتى رأيت راجعة الناس (5) قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلمًا (6) أو هدمًا تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح (7) الباطل وزهق (8)، واطمأن الدين وتنهنه (9) (10).
وقد خيب موقفه المبدئي الرسالي آمال كثيرين ممن كان إسلامهم موضع شك أو كانوا مسلمين مخلصين ولكنهم ينظرون إلى مسألة الحكم من زاوية المصالح القبلية والعائلية نتيجة لافتقارهم إلى النضج والوعي. وقد حاول بعض هؤلاء أن يحملوه على تغيير موقفه المبدئي الرسالي، ولكنه رفض محاولاتهم، مصرحًا بأن الموقف موقف فتنة، داعيًا، إلى النظر في الموقف وفقًا لمقياس عقيدي إسلامي مبدئي، والابتعاد عن المنظور الجاهلي القبلي الذي بدت سماته في تلك المحاولات.
وقد صرح بذلك في مواقف كثيرة، منها قوله مخاطبا الناس حين دعاه أبو سفيان بن حرب والعباس بن عبد المطلب إلى أن يبايعا له بالخلافة: أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة (11) وضعوا تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن (12)، ولقمة يغص بها آكلها. ومجتني الثمرة لغير إيناعها (13) كالزارع بغير أرضه (14).
والسمات التي تميز الفتنة العارضة، فيما نستفيده من جملة ما ورد عن الإمام علي في هذا الشأن، ومن الدراسة التاريخية... أربع:
1 - تتولد أزمة سياسية، قد تكون بسبب أحداث صغيرة، تكون غالبًا غير مخطط لها بل عرضية، ولكن سرعان ما تدخلها بعض القوى الاجتماعية ذات الأهداف السرية المخالفة لنظام المجتمع في نطاق خططها للاستفادة منها ومن تلك الأزمة السياسية، في سبيل الوصول إلى أهدافها.
وقد تتولد الأزمة السياسية بسبب أحداث ذات شأن كبير ومخطط لها - كما حدث في السقيفة - ولكن الجماعات التي تصنع الحدث لا تستثمره لأهداف مخالفة لنظام المجتمع العام والسائد، بل تكون عازمة على الانسجام مع نظام المجتمع، ساعية إلى تعزيزه وفقًا لفهمها الخاص، عاملة على أن يكون ذلك من خلال سلطتها هي.
2 - في الحالتين الآنفتين تحرك الفتنة العارضة بعض القيم القديمة التي قضى عليها النظام الجديد، إما بسبب ضعف رقابة النظام لانشغال أجهزته بالمشكلات السياسية الآنية، أو بسبب التسامح مع بعض القوى السياسية غير الواعية لأجل كسب ولائها في الصراع السياسي الدائر. ولكن هذه القيم القديمة، في جميع الحالات، لا تعود سافرة صريحة، إنما تعود مموهة بشعارات جديدة.
3 - (في الغالب) تتولد الأحداث التي تكون مناخ الفتنة من مشكلات يثيرها أشخاص عاديون أو ذوو قيمة ثانوية في السلم الاجتماعي، كما أنها تقع على أشخاص من هذا القبيل كما هو الحال في فتنة النزاع على الماء بين الغفاري والجهني، ولكن علاقات الدم والصداقة والمصالح والمطامح سرعان ما (تسيس) الأحداث وتستغلها. وقد يحدث أن تتولد الأحداث من مشكلات يثيرها أشخاص ذوو شأن كبير في المجتمع أو تصيب هذه الأحداث أشخاصًا من هذا النوع، كما هو الحال في حادثة الإفك وفي أحداث السقيفة.
4 - تواجه القيادة الحقيقية الشرعية هذه الفتنة بسياسة تتسم بالهدوء، وروح المسؤولية العالية، وتتجنب اتخاذ أية إجراءات أو مواقف انفعالية وانتقامية، لما يؤدي إليه ذلك من عواقب خطيرة تزيد الموقف تعقيدًا والفتنة استحكامًا، وتتيح للقوى الخفية المعادية للنظام (المنافقون، مثلاً في المجتمع الإسلامي) أن تستغل الوضع الطارئ لتحقيق أهدافها.
وبدلًا من مواجهة أحداث الفتنة العارضة بالعنف والانفعال، تحرص القيادة على مواجهتها بأسلوب يعطي الأولوية في الحل لمصلحة القضايا المبدئية والعامة، لا للجانب الشخصي والعائلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سقيفة بني ساعدة، مكان مسقوف بسعف النخل في المدينة (يثرب)، وكانت مجمع الأنصار بعد الإسلام، ودار ندوتهم لفصل القضايا وإجراء المناورات.
(2) يراجع للمؤلف: نظام الحكم والإدارة في الإسلام. كما يراجع للمؤلف أيضًا: ثورة الحسين - ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية (الطبعة الخامسة) الفصل الأول.
(3) مما يوحي بشعور الجميع آنذاك بخطورة الإجراء الذي اتخذوه واشتماله على درجة كبيرة من المغامرة قول الخليفة عمر بن الخطاب في خلافته في تحذير غير مباشر وجهه إلى طلحة والزبير وغيرهما لما نمي إليه عنهم من آراء تتصل بطريقة انتقال السلطة على الأسلوب الذي تم في السقيفة (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها).
(4) أمسكت يدي: توقفت عن المشاركة في الموقف الراهن.
(5) راجعة الناس: الراجعون عن الإسلام، المرتدون.
(6) ثلمًا: خرقًا وانتهاكًا.
(7) زاح: ذهب وزال.
(8) زهق: مات، يعني هنا: زال الباطل تمامًا.
(9) تنهنه: انتعش.
(10) نهج البلاغة، باب الكتب، رقم النص: 62.
(11) عرج عن الطريق: تنحى عنها. يعني تنحوا عن الأسلوب الجاهلي في الصراع السياسي وهو المنافرة والمفاخرة.
(12) الآجن: الماء الذي تغير لونه وفسدت رائحته ولم يعد صالحًا للشرب، يعني بذلك الأسلوب السياسي الجاهلي.
(13) الإيناع: النضج والصلاحية للأكل.
(14) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 5.
الشيخ محمد صنقور
الشيخ باقر القرشي
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد مصباح يزدي
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} لماذا الدال وليس الذال؟
رمضان بين السلوكيات الحسنة والخاطئة
الإمام الحسن (ع) ذكاء وعبقرية
الجانب العلمي في حياة الإمام الحسن (ع)
الصوم حركة تكاملية للإنسان
الحرمان من التوفيق لعبادة الصوم
التقليد وطلب الدليل.. بين الذم والمدح
زكي السالم: احذر قصيدة الفيش الصّيني!
حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية
القرآن يغير حياتك في شهر الله