من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عن الكاتب :
الشيخ الدكتور عبدالهادي الفضلي، من مواليد العام 1935م بقرية (صبخة العرب) إحدى القرى القريبة من البصرة بالعراق، جمع بين الدراسة التقليدية الحوزوية والدراسة الأكاديمية، فنال البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم درجة الدكتوراه في اللغة العربية في النحو والصرف والعروض بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، له العديد من المؤلفات والمساهمات على الصعيدين الحوزوي والأكاديمي.rnتوفي في العام 2013 بعد صراع طويل مع المرض.

دور الإمام علي (ع) في إرساء الحضارة الإسلامية (1)

أريد من الحضارة ـ هنا ـ الجانب الفكري منها، وهو ما يرادف الثقافة: ( Culture ) والتي تشمل العلوم والآداب والمعارف والفنون. وأقرب تعريف للثقافة يلتقي مع ما نحن فيه هو التعريف القائل: (الثقافة: هي مجموع ما توصلت إليه أمّة أو بلاد في الحقول المختلفة من أدب وفكر وفن وصناعة وعلم ).  

 

والحضارة الإسلامية ـ في ضوء هذا ـ تتمثل في القرآن الكريم والحديث الشريف وما يدور في فلكهما من علوم ومعارف وآداب. والحضارة الإسلامية قد ينظر إليها من جانب الهوية، وهي من هذا الجانب تتحقق في الحقول المعرفية التالية: العقيدة والتشريع والأخلاق. وقد ينظر إليها من جانب النشأة، وهي من هذا الجانب تتمثل في التالي: (القرآن الكريم والسنة الشريفة والعلوم والمعارف التي أسهمت في دراسة القرآن والحديث.

 

وعلى هدي ما تقدم، إننا هنا نحاول أن نتعرف دور أمير المؤمنين (عليه السلام) في وضع الأسس المعرفية التي ترتبط بالتالي: فهم النصّ القرآني. توثيق الحديث. فهم الحديث. ما يرتبط بالعقيدة بعامة. ما يرتبط بالتشريع بعامة. ما يرتبط بالأخلاق بعامة.

 

وقبل الدخول في صلب الموضوع نحاول أن نتعرف شخصية الإمام علي الفكرية وعوامل تكوينها، تلك الشخصية التي قامت بدور التأسيس للثقافة الإسلامية.

 

شخصية الإمام علي الفكرية

 

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النموذج الحضاري المتميز من بين سائر أصحاب النبي (صلى الله عليه و آله) وتلامذة مدرسته الفكرية. ويرجع هذا إلى ما توافر له (عليه السلام) من عوامل شاركت متكاملة في شخصيته الفكرية، وهي:

 

1 . العامل الذاتي

 

وأريد به أنّه (عليه السلام) ولد مزودًا بمؤهلات ذهنية ارتفعت به إلى مستوى العبقرية التي هي فوق الذكاء المتفوّق. ويعود هذا إلى أنّ الله تعالى أراد بذلك إعداده لحمل الرسالة وتحمل مسؤولياتها بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ونستطيع أن ندرك هذا مما أعطاه من فكر ومما قام به من أعمال وهو في معرض إرساء أسس الحضارة الإسلامية، كما سنشير إلى شيء منه.

 

إنّ هذا لا يتأتى إلاّ ممن وعي مسؤولية القائد الرسالي وعيًا حيًّا ووضع أمامه ونصب عينيه تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية، و من أهمها أن يكون لها شخصيتها الخاصة والمميزة لها عمّا سواها. ومن ثُمّ ليرتفع مستوى الأمّة الإسلامية عن طريق هذه الحضارة إلى ما أراده الله تعالى للمسلمين بقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...).

 

ذلك أنّ الحضارة السامقة هي القادرة على تكوين هذه الأمّة، وقد رأينا ـ تاريخيًا ـ تسابق المؤهلين ذهنيًّا إلى الإسهام في إنمائها وإثرائها، ومن ثُمّ تكوين الأمّة. وقد تكامل هذا بمدة وجيزة من الزمن اعتبرت رقمًا قياسيًّا في عوالم بناء الحضارات وتكوين الأمم.

 

2 . العامل التربوي

 

وأعني به ما تهيأ للإمام علي (عليه السلام) من جوّ تربوي في ظل توجيهات وتعليمات رسول الله (صلى الله عليه وآله). والإمام علي يسجل هذا بقوله (عليه السلام): (ولقد كنتُ أتبعه "يعني رسول الله" (صلى الله عليه وآله) إتباع الفصيل إثر أمّه، يرفع لي في كُلّ يوم من أخلاقه علمًا، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاوز في كُلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله)، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي، ولكنك لوزير، وإنّك لعلى خير).

 

ويدخل في هذا الإطار ما عرف من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد أملى على الإمام (عليه السلام) ما أُطلق عليه عنوان (كتاب علي)، وكتبه بخطه الشريف من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وروي عن إبراهيم بن هشام بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر (عليهم السلام) أنّه قال: (في كتاب علي كُلّ شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش).

 

إنّ هذا اللون من التربية خلق عند الإمام الذهنية العلمية المبدعة التي أعطت ـ فيما بعد ـ العطاء الخير الذي أشرت إليه في أعلاه.

 

على أساس من تحمل الإمام (عليه السلام) هذه المسؤولية الضخمة، ومن وعيه لأهمية تطبيقها، ومن خلال إدراكه لأهمية ما تهدف إليه من تأسيس حضارة إسلامية تتكون في أجوائها وداخل أطرها الأمّة الإسلامية القائدة انطلق الإمام (عليه السلام) يضع القواعد والأسس للعلوم الإسلامية والعلوم الأخرى المساعدة لها، وتمثلت هذه في البداية بالتالي:

 

علم العقيدة 

 

وهو العلم الذي عُرف بـ (علم التوحيد)، والتوحيد في الحضارة الإسلامية أساس العقيدة، تلك العقيدة التي تعطي الفكرة الإسلامية عن نشوء الكون وتطوراته ونهايته. وبتعبير أخصّ: تعطينا الفكرة عن المبدأ والمعاد. والعقيدة هذه بتفاصيلها وحدودها هي أساس التشريع الإسلامي، منها ينشقّ وعليها يقوم، ذلك التشريع الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم في كُلّ مفرداتها وجزئياتها، وجميع أطوارها وأدوارها. وأيضًا العقيدة الإسلامية هي التي ترسم وتحدد الإطار الذهني للإنسان المسلم الذي من خلاله يفكر، وفي هدي معطياته يرى مرئياته.

 

وقد رأينا الإمام (عليه السلام) يبدأ بالتوحيد ليضع اللبنات الأساس لهذا الفكر العقيدي، وفي كتاب (نهج البلاغ ) الكثير من هذا، الخطبة الأولى فيه تضع لنا التوحيد في موضعه كأساس للعقيدة الإسلامية، ولذا بدأ علي ثُمّ انتقل من بعده إلى بيان كيفية خلق الكون بعوالمه المختلفة، وبيان بعث الأنبياء وإرسال الرسل وتشريع الأحكام.

 

وتجد الحديث عن التوحيد في المقطع الأول من خطبته المشار إليها، قال (عليه السلام): (أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه... إلخ).

 

وفي الخطبة نفسها يربط التشريع بالعقيدة لأنها الإطار الفكري له ليرينا تسلسل الفكر الحضاري الإسلامي، قال (عليه السلام): (إلى أن بعث الله سبحانه محمدًا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لإنجاز عدته وإتمام نبوته.. ثُمّ اختار سبحانه لمحمد (صلى الله عليه وآله) لقاءه.. وخلّف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم، كتاب ربكم فيكم مبيّنًا حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله).

 

وكان التشريع الإسلامي موجودًا عند الإمام (عليه السلام) وعند من بعده من الأئمة (عليه السلام) من ذريته كاملاً لا نقص فيه، متمثلاً في (كتاب علي) الذي أشرنا إليه في أعلاه، والذي وردت الرواية فيه أنّ فيه كُلّ شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش.

 

ونلمس هذا واضحًا في وفرة النصوص الشرعية عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بالكمية التي غطت جميع ما يحتاج إليه الفقيه في مجال استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الشرعية بحيث لم يعد الفقيه بحاجة لغير الكتاب والسنة من مصادر أخرى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد