من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

اليهود وتسخير شعب بأسره

من المعروف أنّ الكيان الصهيوني قد قام في أرض فلسطين وتشكّل على مجموعة من الادّعاءات التي أصبحت بالنسبة للكثير من اليهود بمنزلة العقائد الثابتة؛ منها، مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، حيث إنّ أكثر اليهود الذين تمّ استدراجهم إلى فلسطين أُخبروا بأنهم سينتقلون إلى أرض خالية من الناس خلا بعض القبائل والعشائر المتناثرة التي كانت تعيش حياة البداوة على أراض جرداء متباعدة.

 

أمّا الركن الثاني الذي جمع الكثير من اليهود حول مشروع الكيان فقد كان عبارة عن أنّ فلسطين هذه ستكون أرض الحليب والعسل، انطلاقًا من المقولة المنسوبة إلى الكتب المقدسة بأنّ الله سيمنح اليهود، وهم شعبه المختار، أرضًا تمنحهم كل الخيرات والبركات، وتكون لهم بمنزلة الهدية السماوية بعد عصور التشرد والمعاناة.

 

والمقولة الأخرى هي أنّ فلسطين أرض الميعاد، الأرض الموعودة التي سيجمع الله فيها كل يهود العالم ليجعلهم خير أمّة، ويُظهر أنّهم شعبه المختار، بعد كل الاستضعاف الذي لاحقهم على مدى العصور في كل بقاع العالم.

 

والمقولة الرابعة، التي يروج لها زعماء يهود، هي أنّ الكيان سيمنح اليهود فرصة لإعادة بناء هيكل سليمان ما يكون بشارة، بل مقدمة لمجيء المسيح المخلِّص؛ ذلك الموعود المنتظر وفق بعض الأفكار اليهودية، والذي سيحقق لليهود مجدهم الغابر وعزّتهم المستقبلية؛ فيكون هذا موقوفًا على وجود دولة قوية لهم في هذه المنطقة.

 

وبالتأكيد، يمكن مناقشة مدى دقة انتساب أي من هذه المقولات إلى عمق الثقافة أو العقيدة اليهودية، فما يصرح به البعض أنّ هناك من قام بالتلاعب بالذاكرة اليهودية حيث أوّل العديد من النصوص المقدسة بالاتّجاه الذي يرتضيه، وأنّه لا يمكن إثبات نسبة أي من هذه الأفكار والعقائد إلى الديانة اليهودية القديمة. وبالتالي فإنّ إثبات كون فلسطين هي أرض الميعاد لا صحة له؛ خصوصًا إذا عرفنا أنّ العديد من اليهود كانوا مستعدين للقبول بأي أرض في العالم كموطنٍ نهائي لهم حتى لو كانت في أمريكا أو في أفريقيا؛ وهنا تبرز نظرية مؤامرة الإنكليز الذين تلاعبوا بالعقل اليهوديّ عبر حفنة من الصهاينة الطامحين، من أجل أن يأتوا بهم إلى هذه المنطقة، ويحققوا لهم هذا النفوذ ويضمنوا لهم بقاء هيمنتهم عبر سياستهم المعروفة بـ "فرِّق تسد"، وغيرها من الأهداف الاستعمارية الواضحة.

 

نحن هنا لسنا أمام مناقشة مدى صحة انتساب هذه المقولات للثقافة اليهودية، إنّما نريد أن نتوقف عند هذه الظاهرة الملفتة، وهي أنّه كيف يتم خلق ذاكرة جماهيرية لشعب أو لجماعة بشرية، حيث تتحوّل هذه الذاكرة على مدى السنين إلى ثقافة وديانة، يُشاد عليها مشروع كبير بهذا الحجم والخطورة وبمثل هذا الإنفاق والدعم والعمل الحثيث المتواصل، مع ما سيكون فيه من مخاطر وتهديدات وأحداث مهولة!

 

فها هم اليهود يتم حشدهم، ربما للمرة الثانية في تاريخهم، بعد العودة من بابل (بحسب مشهور التواريخ)، ويتم الإتيان بهم من كل بلاد العالم وبهذه الطريقة الدراماتيكية ليجعلوا أنفسهم عرضة للفناء والإبادة. فلو أنّ اليهود فكّروا بعقلانية في بداية المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، فلا أظن أنّهم كانوا ليختاروا مواجهة المسلمين في عقر دارهم؛ كيف والمسلمون يكنّون لهم مثل هذا العداء التاريخي ويختزنون في ثقافتهم صورًا لا تُنسى لمؤامرات اليهود وأحقادهم والله تعالى يقول في القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}.

 

يوجد في الذاكرة المسلمة الكثير من الكلام والاعتقاد الذي يرتبط بعداء اليهود وخطرهم. فكيف يأتي هؤلاء من مختلف أنحاء العالم ليتحدّوا المسلمين ـ الذين يفوقونهم قدرة وعددًا وإمكانيات ـ ويُؤلّبوهم عليهم، بحيث يكون ذلك سببًا لفنائهم كشعب؛ اللهم إلا إذا كان هناك ما هو أبعد من ذلك!!

 

إذًا، يبدو أنّ هناك خطة كانت معدة لليهود من قبل أعدائهم الألداء من المسيحيين، وربما كانت في البداية فوق إرادتهم؛ أو لنقل أنّه تمّ التلاعب بهم ـ سواء من قبل مجموعة من الزعماء المنتفعين أو بعض عملاء القوى الاستعمارية الذين وجدوا فيهم أفضل وسيلة للحفظ على منجزات الاستعمار في هذه المنطقة. وفي كل الأحوال لا بدّ من التوقّف عند هذه الظاهرة العجيبة، التي تُعد من الظواهر المهمة التي تستحق الدراسة على صعيد سنن الحياة الاجتماعية البشرية؛ فكيف تم إقناع هذه المجموعات البشرية لتتشكل في كيان بهذه الخطورة ؟

 

لأجل ذلك نجد أنّ اليهود، وبمجرد أن انخرطوا في هذا المشروع، وتبنوا فكرة إنشاء كيان خاص لهم حتى اضطروا إلى أن يتحوّلوا تلقائيًّا إلى غزاة وقتلة ومستعمرين. ويبدو أنّ اليهود الذين استعمروا فلسطين في العصر الحديث، أصبحوا يدركون تمامًا أنّهم كذلك، وأنّه لا بد أن يرثوه. وفي ذاكرة كل إسرائيلي إنّ الوسيلة الوحيدة للبقاء تعتمد على القتل والسفك والاحتلال والاغتصاب وكل أشكال الهمجية والوحشية التي يجب على زعمائهم ورجال دينهم أن يجدوا المبررات السياسية والدينية المناسبة لها. إنّ تحويل شعب بأسره إلى قاتل ومجرم ليس بالأمر السهل. لا يستطيع الإسرائيلي في زماننا هذا أن يغفل عن واقع كونه محتلًّا ووحشيًّا وقاتلًا، ويشارك في إبادة شعب بأسره، ويمارس بحقه أبشع أشكال التنكيل.

 

إذًا نحن أمام شعب يتم العمل على ذاكرته باستمرار لأجل أن يبقى ويكون متوحّشًا.. وفي زماننا هذا يبدو أنّ الأمر خارج السياق العالمي؛ لأنّ أكثر الدول والحكومات في هذا العالم لا تعتمد منهجية التوحش لإقناع شعوبها باتّباع سياساتها؛ الأمر الذي يعرف عقلاء العالم أنّه ينقلب عليها. لذلك نجد هذه الحكومات تسلك طريق الشعارات البراقة والقيم الجميلة والمبادئ الإنسانية؛ الأمر الذي لا يمكن لأي حكومة أن تفعله وهي تبرر قتل وإبادة شعب والتنكيل به كما يفعل اليهود في الفلسطينيين منذ أكثر من سبعة عقود.

 

ها هي أمريكا التي تمثّل رمز الاستكبار والاضطهاد في العالم لا تمضي بأي سياسة استعمارية إلا تحت شعارات نشر الديمقراطية والحرية، والدفاع عن حقوق الشعوب أو الأقليات في العالم؛ ولذلك وجدنا مفكرًا نهضويًا مثل نعوم تشومسكي يدعم السياسات الأمريكية في سوريا والعراق لأنّها تدافع عن الأقلية الكردية في المنطقة، وهو يضفي على قوات بلاده المسلحة هنا الشرعية لأجل ذلك؛ وهذا هو نهج الإنكليز والفرنسيين وأي قوة حديثة، فلا يمكن أن تعتمد مبدأ الهمجية لحماية سياساتها. ومع ذلك، ما  يجري في واقع اليهود في فلسطين هو شيء مخالف تمامًا للسياق؛ ما يعني أنّ هناك ثمنًا باهظًا لا بد من دفعه. وهذا الثمن بالطبع سيكون على حساب ثقافة اليهود والنسيج الذي كان يجمعهم على مدى العصور.

 

إنّ زعماء اليهود وقادة المشروع الصهيوني ملتزمون بالبربرية والوحشية وكل أشكال الاستعمار، لأجل المُضي قدمًا في مشروعهم هذا. وهذا يعني أنّ هؤلاء الزعماء يغامرون بأهم ما يمكن أن يمتلكه شعب للاستمرار والاتّحاد والتألق والتقدم، وهم يضحون بأي قيمة أساسية لجعل الجماعة شعبًا ذا موقعية حضارية في العالم.  فلئن دل هذا على شيء، فإنّه يدل على أنّ هؤلاء الزعماء مرتهَنون بالكامل لمشروع أكبر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد