لعل فكرة المجتمع من أقدم الفكر التي اهتدى إليها الإنسان - الفكر التي لعبت دورًا خطيرًا في تطوير الحياة الإنسانية، ودفعت بالإنسان إلى القيام بتجارب كثيرة كانت، على ما فيها من أخطاء وحماقات، تربة خصبة لتجارب أعظم أصالة، وأشد إحكامًا، وأقرب إلى شريعة الصواب من سابقتها.
وكانت أيضًا حافزًا إلى القيام بمحاولات جديدة تهدف إلى تطوير الحياة الاجتماعية وإرسائها على ركائز تضمن لها استقرارها ونموها.
ودخلت هذه الفكرة دورها الذهبي - ولا تزال فيه حتى اليوم - يوم جعلها العقل العلمي ميدانًا لبحثه، فخرجت، بهذا، عن أن تكون ميدانًا لتجارب عشواء، أو ميدانًا لتطبيقات السياسيين الضيقي الأفق، الناظرين إلى قريب، المبتغين النفع العاجل من جل ما يصنعون - خرجت عن أن تكون ميدانًا لمثل هذه التجارب الفجة لتصير ميدانًا للنظر العلمي المتزن الرصين.
وصار من هم الفيلسوف - وهو رجل المعرفة الأول الذي عرفته البشرية بعد النبي - أن يتعرف على آليات الحياة الاجتماعية وقوانينها، ويدرس اتجاهاتها، ويصنف هذه القوانين والاتجاهات. خصها بمزيد من العناية سقراط وأرسطو وأفلاطون، هذه القمم الشامخة في الفكر الفلسفي، وتعاقب بعدهم فلاسفة كثيرون لم يغفلوا هذه الفكرة ولم يبخسوها حقها من البحث والتفكير.. حتى جاء ابن خلدون فسجل في (مقدمته) حدثًا علميًّا عظيمًا بالنسبة إلى هذه الفكرة حين خطا الخطوة الأخيرة، فجعل منها علمًا قائمًا بنفسه يفترق عن الفلسفة في مادته وهي الحياة الاجتماعية، ويفترق عنها في منهجه وهو الملاحظة، ويفترق عنها في غايته وهي التعرف على أحسن الوسائل لتنمية الحياة الاجتماعية.
وجاء العصر الحديث، عصر الجماهير، فزادت أهمية هذه الفكرة، وحصلت على هبتها العظمى من أوغست كنت في الفلسفة الوضعية، وأصبح لها دوائر معارف خاصة هي دوائر المعارف الاجتماعية، وأصبح لها معاهد علمية خاصة لا تخلو منها جامعة تشرف عليها هيئات علمية تخصصت في هذا العلم: علم الاجتماع.
هذا عرض خاطف، وأرجو ألا يكون مقتضبًا جدًّا، لمراحل تكون فكرة المجتمع وتبلورها. وهنا تجيء لحظه التساؤل عن صلة نهج البلاغة بهذا كله؟ والجواب عن ذلك أننا أردنا ان نكشف عن أن نهج البلاغة لم يحظ بالالتفات الجدير به من هذه الناحية (1).
وسنرى بعد أن نعرف ما لفكرة المجتمع في نهج البلاغة من مكان مرموق بين ما اشتمل عليه من بحوث. وبعد أن نعرف أن الامام قد تمرس بهذه الفكرة وعاناها كما لم يتمرس بها ولم يعانها حاكم في زمانه على الإطلاق.
وبعد أن نعرف أن معاناته لها قد انتهت به إلى نتائج باهرة - بعد أن نعرف هذا كله يتبين لنا أن نهج البلاغة كان يجب أن ينال حظًّا من الالتفات إليه من الاجتماعيين، لأنه يسجل حدثًا مهمًّا في فكرة المجتمع.
لا نريد أن نقول إن الامام قد اخترع علم الاجتماع لنرتفع بنسب هذا العلم من ابن خلدون إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، بعد أن تبين للدوائر الاجتماعية أن الأب الشرعي لهذا العلم ليس أوغست كنت.
لا نريد أن نقول هذا، فلم يكرس الإمام نفسه لاختراع العلوم، وإن كان قد شارك في هذا المجال الإبداعي فاخترع وحده العلم الذي حفظ للعربية أصولها وضمن لها الخلود ذلك علم النحو.
لقد كانت محاولة تطبيق الصيغة الإسلامية الصحيحة للحياة الإنسانية على المجتمع في سبيل بناء الإنسان المتكامل - كانت هذه المحاولة هي همه الكبير كقائد رسالي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
ولقد كانت مشاكل السياسة والإدارة والحرب هي شاغله الأول وهي ميدانه الأصيل كحاكم. إن الذي نريد أن نقوله هو إنه - كحاكم عادل - قد فكر في المجتمعات التي حكمها. وفكر في أفضل الطرق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعية وترتفع بها إلى الذروة من الرفاهية والقوة والأمن، مع ملاحظة أنها تدين بالإسلام وإن شؤون اقتصادها، وحربها، وسلمها، وعلائقها الاجتماعية، تخضع لقوانين الإسلام، وإنها يجب أن تأخذ سبيلها إلى النمو في إطار إسلامي بحت.
وقد هداه تفكيره إلى نتائج باهرة في التنظيم الاجتماعي: فالحكم وضرورته، والنزعة القبلية وعقابيلها، وشغب الغوغاء ونتائجه، ودعامات المجتمع ومقوماته، والطبقات الاجتماعية وآليتها - كل ذلك خصه الإمام بمزيد من البحث والتفكير، وطبق النتائج التي اهتدى إليها على المجتمعات الإسلامية، ولولا أن أعداءه الأشرار شغلوه عن أن يفرغ لمهام العمل السلمي لبدا هنا من أعماله شيء عظيم.
وإن ما بين أيدينا من كلامه عليه السلام في المجتمع ليدل دلالة واضحة على أنه راصد اجتماعي من الطراز الأول، وإن تقسيمه للطبقات الاجتماعية وتعريفه بآلياتها ليدخل في باب الحدس العبقري والإلهام. ويقينًا لو أن الشريف الرضي رحمه الله حفظ لنا كل ما وقع إليه من كلام أمير المؤمنين، ولم يؤثر الفصيح الباذخ وحده لانتهى إلينا من ذلك شيء عظيم. ولو ضم ما ضاع من كلامه إلى ما حفظ إلى زمان الشريف لانتهى إلينا من ذلك شيء أجل وأعظم خطرًا وقدرًا (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - اللهم إلا ما كان مؤخرًا من المحاولة الموفقة التي قام بها الأستاذ الكبير جورج جرداق في كتابه القيم (الإمام علي: صوت العدالة الإنسانية) ففي هذا الكتاب الذي يعتبر فتحًا جديدًا في عالم التأليف يبرهن الأستاذ جرداق عن وعي صحيح لآراء الإمام في الاجتماع الإنساني وسياسة الجماعات. والكتاب، بعد، نصر لحرية الفكر، وللبحث النزيه، وبرهان حي على أن المؤلف إنسان واع لهمته كأديب قائد.
2 - صرح الشريف الرضي رحمه الله في مقدمة (نهج البلاغة) بأنه استجاب لرغبة الأصدقاء والإخوان في تأليف (كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.. فأجبتهم إلى ذلك.. فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب).
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (3)
في مفهوم ولطائف آية: (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)
في اليقين
فكرة المجتمع في نهج البلاغة
التّعاصر بين العلّة والمعلول
الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية
السّلامة الشّاملة بالعربيّة، جديد الكاتب مصطفى مهدي آل غزوي
إبراهيم عليه السلام من المذبح إلى الإمامة
فتح صفحة جديدة مع الله تعالى
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (2)