مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبدالشّهيد الثّور
عن الكاتب :
عبدالشّهيد الثّور، كاتب وشاعر وخطّاط ورادود، ولد في العام 1965 بقرية السّنابس في البحرين، انجذب باكرًا إلى الخطّ العربيّ وعمل على تحصيل أسرار جماليّاته، بدأت مسيرته مع المواكب الحسينيّة مع نهاية العام 1979، فكوّن لونًا خاصًّا به في أداء العزاء الحسينيّ، يعدّ من الرّعيل الأوّل لرواديد البحرين الذين قادوا حركة التّجديد في العزاء في المنطقة، التي تزامنت مع انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران، وهو من القلائل الذين قاموا بتوثيق تجاربهم في المواكب الحسينيّة، له كرّاس بعنوان: (تجارب موكبيّة في سيرة رادود)، وكتاب في السيرة الذاتية بعنوان (أيام في ذاكرة الوطن)، ورواية بعنوان: (قاهر الموت) توثّق للأجواء الشّعائريّة العاشورائيّة بلغة شعريّة، وسوى ذلك من المؤلّفات. ينظم الشّعر بغزارة، وصدر له ديوان بعنوان (الدّموع الجارية)، وله العديد من المقالات المنشورة في المجلّات والمواقع الإلكترونية.

الحضور القرآنيّ في الموكب

ها هي كربلاء أمامنا، صفحة ناصعة تبرز في أحداثها كلّ المثل النّبويّة والمواقف السّامية. الإمام الحسين (ع) قائد هذه الملحمة الخالدة، شخصيّة تجسّدت فيها كلّ الصّفات السّماوية، لا ريب في ذلك، فهو امتداد لرسالة جدّه السّائرة بالنهج القرآني.

لهذا عندما نتصفّح خطب الإمام الحسين وحواراته، نجد القرآن حاضرًا بغزارة في كلّ موقف، تارة يصدع الإمام بالمفاهيم القرآنيّة ليقارع بها أئمّة الضّلال، وحينًا يخرسهم ببيانه وأسلوبه القرآنيّ، ولا تكاد تخلو خطبة من خطبه من استشهاد بآية أو أكثر، ليعيد الأمّة إلى الجادّة الحقّة بالتدبّر في كتابها الحكيم.

ها هو عليه السّلام عندما أراد الخروج إلى العراق قام خطيبًا وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَما شاءَ اللَّهُ‏ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ‏ وَسَلَّمَ، خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى‏ أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَخُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ‏، بَيْنَ النَّوَاوِيسِوَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَأَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ، لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَحْمَةٌ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَيُنَجَّزُ لَهُمْ‏ وَعْدُهُ، مَنْ‏ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتَهُ وَمُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ‏ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ للَّهُ‏".

إنّك لتجد في تلك القطعة الآنفة من خطابه، تجليّات قرآنيّة متعدّدة يدركها كلّ من عايش القرآن قراءة وتدبّرًا، فلو أنّك حصرت الأفعال الواردة فيها، لوجدتها مستلهمة من القرآن الكريم بعناية: (نصبر، يوفينا، تقر، ينجز) هذه الأفعال لا تصدر إلّا عن نفس متعلّقة بالذّكر الحكيم.   

على هذا الأمر أيضًا جاءت المواكب الحسينيّة عبر السّنين، حاملة الرّسالة الحسينيّة بكلّ أبعادها لتقدّمها للأجيال، وكان للقرائح الأدبيّة دور بارز في تعميق النَّفَس القرآنيّ في القلوب، من خلال المستهلّات التي تتردّد لمرّات متكرّرة، ولو أردنا أن نستقصي كلّ ما ورد في الموكب من مستهلّات استوعبت هذا الجانب، لكان الأمر من المستحيل العسير، لاتّساع رقعة النّصوص الموكبيّة بمستهلّاتها، ولكن هذا لا يحجزنا عن الإتيان بأمثلة ترسخ النّتيجة الفاصلة بإثباتات وشواهد حتى وإن كانت يسيرة.

انطلاقًا من يوم أتى فيه بشر بن حذلم داخلًا المدينة بأمر من الإمام السّجّاد (ع) قارعًا أسماع أهل المدينة ناعيًا:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها    

قتل الحسين فأدمعي مدرار

لقد استلّ مقدمة نعيه بخطاب قرآنيّ انتزعه من سورة الأحزاب، أرسله على أهل يثرب ليحرّك مشاعرهم ويعيد إلى ذاكرتهم أيّام رسول الله (ص)، ويستفزّ حرقتهم لمقتل سبط رسول الله (ص).

 

مفهوم قرآني

كما كان الإمام الحسين (ع) لا يفتأ يسوق المفاهيم القرآنيّة متواترة في كثير من مواقفه، مثلًا عندما وقف يخاطب المعسكر قال: أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشّقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدّنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتُخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم...

كذلك كانت كثيرة المفاهيم القرآنيّة التي ظهرت في النصوص الموكبيّة ومستهلاتها، بل تكاد تكون القصائد الموكبيّة مشبعة بهذه المفاهيم، لا سيّما وهذه القصائد راحت تحمل لواء القضيّة الحسينيّة وهي تقارع الانحراف السّلوكيّ منذ يوم الطّفّ.

أبوكم أبو لهب           

يا أمّة العرب

وأمّكم معروفة          

حـمّالة الحطب

حين تردّد الأفواه هذا المفهوم القرآنيّ، هي لا شكّ تعود بوجدانها إلى سورة المسد، لتعكس من خلالها صورة على واقع مكرّر يطبع في عقيدتها قناعة بحيويّة هذا النّصّ القرآنيّ، وأنه لم يعد تاريخًا مضى أو قرآنًا يتلى للبركة، وإنّما هو دور من الأدوار التي تناولها القرآن موحيًا للأمّة بضرورة التّنبّه له، وهكذا تكون المفاهيم القرآنيّة حاضرة ملاصقة ومعايشة لحاملي حبّ الحسين (ع)، هذا فضلًا عن الأبيات التّالية للمستهلّ، فالقصائد الموكبيّة تتضمن كثيرًا من الأبيات النّابضة بالمفاهيم القرآنيّة.

وشاعر آخر يجعل مطلع قصيدته:

اهدنا القلب الرّحيم     

والصّراط المستقيم

اهدنا ربي إلى حبّ محمّد

هذا الشّاعر تغلغلت سورة الفاتحة بدعائها في شغاف قلبه، فانفرجت قريحته عن سبك جميل في مفهومه الرّوحي، وهو يلامس العاطفة الجماهيريّة بخطاب جماعيّ يشركهم فيه إلى السّعي لكلّ هدي.

والنّاظمون على هذا الهديّ القرآنيّ كثيرون في سيرة الموكب الطّويلة، فتراهم لا يفتأون يحكمون الرّبط بين كربلاء وقادتها، والسّعيّ إلى تمتين العلاقة بالمزايا الإيمانيّة من رحمة واستقامة وحبّ وتعاون ومودّة ورغبة في كل ما فيه رخاء وخير الإنسانية.

 

أسلوب قرآني

شعراء الموكب الحسينيّ غير بعيدين عن القرآن وملامسة قاموسه وأسلوبه وتعابيره وصياغة معانيه، فهم مَن هم في تأثّرهم بأئمّتهم بالتعلّق بالقرآن صاحبًا، وهم يدركون قيمة وصايا قادتهم بالغوص في أعماق الآيات القرآنيّة والتزوّد من كنوزها الدّفينة، فتراهم كلما اقتربوا من الآيات قراءة وتدبرًا، جاءت نتاجاتهم ذات طراز محكم وأكثر متانة، متحصّنين بمخزون من البلاغة الرّبّانيّة والفصاحة الإلهيّة التي تتسلل إلى بحور شعرهم.

إنّهم يسمعون الإمام الحسين (ع) يخاطب أعداءه قائلًا: أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحّق لكم عليّ وحتى أعذر لكم. لا يشكّ أيّ متشرّب بالآيات القرآنيّة، أن هذه الصياغة الخطابيّة تحمل ميزات متراكمة من الأسلوب القرآنيّ في القاموس والتّراكيب والحجج، وهكذا حتى باقي الخطبة يلمس المتمعّن في النّصّ قربًا وأنسًا من النّصّ القرآنيّ، لما تطبّعت به نفس الإمام من الملامح والدّفقات القرآنيّة، حتى لتجد في كلّ خطبة من خطبه تدفّق آيات بين جمله وعباراته وبراهينه.

كذب القائلون               

أنّكم زائلون

يا شموس التّضحيات الهاشميّة

هذا شاعر آخر يجري على لسانه أسلوب ونفَس قرآني يحاكي به الحافظة الموكبيّة، عندما نعود إلى الآيات القرآنيّة نجد هذه الصّياغة حاضرة في أكثر من موقع، فتارة يقول الله: كذّب أصحاب الأيكة المرسلين، وحينًا يقول: كذّبت ثمود بطغواها، وأخرى يقول: كذّبت عاد المرسلين... إذن هو أسلوب متعلّق بالرّسالة العليا للأنبياء في مواجهة أعدائهم بالقرآن، أو بما يبرز من روح قرآنية.

 

تضمين قرآني

الآيات القرآنيّة المضمّنة في النّصوص الموكبيّة لا تعدّ لكثرتها، وهذا أمر يتقاطع مع قدرة الآيات القرآنيّة على استيعاب تفعيلات البحور الخليليّة، ومع قدرة الشّاعر على توظيف السّياق القرآنيّ في نصّه الموكبيّ.

وقفوهم إنهم مسؤولون

عن سبيل الرشاد        

وحقوق العباد

ما أجمل أن يوظّف الشّاعر خطابًا قرآنيًّا في مستهلّ تردّده الجماهير، وبهذه الوسيلة يصبح الحضور القرآنيّ معلمًا بارزًا من معالم الموكب الرّساليّة في ترسيخ المنهج القرآنيّ في النّفوس من أجل خلق وعي تامّ بحقيقة النّهضة الحسينيّة، لهذا تجد الشّاعر راح يوظّف الآية 24 من سورة الصّافّات في مقدّمة مستهله إبرازًا لعظم المسؤولية، ومن أجل إبراز بعد غائب لابدّ أن يستحضر في كلّ مناسبة، وهو أنّ النّهضة الحسينيّة هي نهضة تحمل في مضامينها إبراز الرّسالة الإسلاميّة النّاصعة من  طلب للرّشاد ومكافحة لتثبيت حقوق العبد، كلّ هذا من خلال كتابها المنزل القرآن الكريم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد