مقالات

سليلة بيت النبوّة

أنطوان بارا

 

 

وزينب الكبرى (عليها السّلام) سليلة أشرف نسب في الإسلام، فأمّها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلوات الله عليهما)، وأبوها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وقد ولدتها أمّها بعد ولادة أشرف شهيدَين، سيّدا شباب أهل الجنّة الحسنين (عليهما السّلام)، فنشأت في بيت الوحي بعد أن رضعت القدسيّة من ثدي العصمة، ونهلت العلم والحِلم ومكارم الأخلاق وكلّ الخصال الحميدة التي اشتهرت عن آل البيت، وهي لـمّا تزل صغيرة.

وقد أثبتت حوادث ما بعد الشهادة ومواقفها خلال فترة السبي، على رجاحة عقلها وقوّة حجّتها وحضور وحيها في أشدّ لحظات الخطر وأصعبها، إذ قادت بنفسها مسيرة ما تبقّى من الموكب، ودافعت عنه دفاع اللبوة عن أشبالها، فغدت مواقفها على مرّ الأيّام وتعاقب القرون مثالاً يحتذى به، وفخراً لثورة أخيها التي أكملتها بجهادها المستميت.

 

وقد ذكر الطبرسي أنّها (عليها السّلام) كانت شديدة الحبّ لأخيها الحسين منذ نعومة أظفارها، وكأنّ السرّ الإلهي كان يعدّهما لهدفٍ واحد يتقاسمان أعباءه. وهذا ما أكّده تواتر الأيّام؛ إذ شاركته مسيرته وكانت إلى جانبه في معمعان محنته، ولـمّا سقط خرجت من فسطاطها ووقفت عند جسده ثمّ رفعت رأسه وقالت: اللّهم تقبّل منّا هذا القربان (1).

وقيل: إنّها كانت قد وطّنت نفسها عند إحراق الخيم أن تقرّ في الخيمة مع النسوة، إن كان الله شاء إحراقهنّ كما شاء قتل رجالهنّ، وقد سألت زين العابدين عند اضطرام النار: يا ابن أخي، ما نصنع؟ مستفهمة منه مشيئة الله فيهنّ.

 

إنّها الروح المؤمنة ذاتها التي رفعت هتافها فوق جسد الحسين الطاهر، وتضرّعت لله أن يقبله كقربان، صرخت أمام يزيد الفاسق: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههن، وصَحِلت أصواتهن، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والشريف والدني، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي، ولا من حماتهنّ حمي؟!

وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً بأشياخك: ليت أشياخي ببدر شهدوا! منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمحضرتك.

 

وكيف لا تقول ذلك؟! وقد نكأت القرحة واستأصلت الشّافة بإراقتك دماء ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، أتهتف بأشياخك؟! زعمت أنّك تناديهم فلترِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. اللّهمّ خذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله يا يزيد ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولترِدَنّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (2). وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً، وبجبريل ظهيراً. وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً! وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً!

 

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء وهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها اُمّهات الفراعل (3)، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك وما ربّك بظلاّمٍ للعبيد.

فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟ فالحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود وهو حسبنا ونِعم الوكيل.

 

هذه البلاغة والفصاحة لا يأتي بمثلها إلاّ مَن تربّى في بيت الطالبيّين، وهذه الشجاعة الفائقة لا يجسر عليها بشرٌ حيال يزيد، وقد جسرت عليها الحوراء، فبلبلت مجلس يزيد وأحدثت في أركانه هزّة، فلم يزد إلاّ أن قال:

يا صيحةً تُحمدُ من صوائحِ

ما أهونَ النوح على النوائحِ

ثمّ أمر بإخراج الحرم من المجلس إلى خربة، حيث أقاموا فيها ثلاث أيّام يندبون وينوحون على الحسين (عليه السّلام) (4).

وإنّها لحكمة إلهيّة أن يسار بالسبي إلى الكوفة ودمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال، فيرى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا أو سمعوا في قتل الحسين (عليه السلام)، وهذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء والأطفال والرضّع ليكونوا شهوداً وألسنة تنطق بمظلمته.

 

وقد قامت العقيلة زينب (عليها السلام) بالدور الأكبر في ثورة أخيها الحسين بحملها لواء الحرب النفسيّة التي تمّمت حرب أخيها العسكريّة، وشكّلت معها الوجه الآخر لهدفٍ واحد ألا وهو إحقاق الحقّ، وتقويض الدولة الأموية التي مثّلت انتهاك السنّة وتحريف العقيدة، وفساد الحكم في كلّ زمان ومكان.

ولو لَم تقم زينب (عليها السّلام) بدَورها الصعب الذي قامت به، لَما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة ونتائج أيّة معركة تدار فيها الأيدي والسّيوف، وتصهل فيها الخيل، والرأي الأمثل في هذه الحكمة - حكمة خروج الحسين بحرمه وما تلاها من استلام زينب لراية الكفاح - إنّما كان هو الهدف الذي سيتحقق بعده كلّ أهداف الثورة؛ إذ لولا خروج زينب وحرائر وعقيلات آل البيت هذا الخروج الدرامي المفجع لَما كان للهزّة الضميريّة هذا التوجّع المؤلم، ولم يكن ليتسنّى لها الدخول على ابن زياد في قصر الإمارة لتعلن أمام الحشد صرختها التي هي في مضمونها صرخة مشتركة مع صوت أخيها الحسين (عليه السّلام)، فتقول: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا (5).

 

ولا كان بإمكانها الوقوف أمام يزيد وهو فوق متّكئ سلطانه وجبروته وإلقاء خطبتها البليغة التي تحمل عبق الصدق، فتتآلف لها النفوس، وتتألّب لها الضمائر وتتوغّر معها الصدور على يزيد وطغمته، فتكون بذلك قد بذرت بذرة الثورة في الصدور إلى أن يحين موعد انفجارها.

وسيّد الشهداء (عليه السّلام) كان ينظر إلى المستقبل نظرته إلى كتاب مفتوح، وكان عالِماً بأنّ الخذلان لن يدوم أبد الدهر، وكان في خروجه وإخراج الحرم معه إنّما يراهن على حيويّة الضمائر الإسلاميّة التي لن تجد مندوحة ولا أعذاراً في لوم نفسها على التقصير، سواء عن سكوتها على مباغي الأمويّين، أم في عدم نصرتها للثائر الحسين الذي قام يحطّم الوثنيّة الجاهليّة الجديدة التي امتطت الإسلام لتحقيق مآربها، ومحقت ذريّة الرسول صاحب هذه الرسالة باسم خلافة مزيّفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). الكبريت الأحمر 3 / 13 عن الطراز المذهّب.

(2). سورة آل عمران / 169.

(3). العواسل: جمع عسّال، وهو الذئب. والفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.

(4). اللهوف / 207، وأمالي الصدوق / 101.

(5). تاريخ الطبري 6 / 262، واللهوف / 90.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد