مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

الإسلام والمواثيق

ليس ثمة هدف للمجتمعات غير الدينية، وبالخصوص المجتمعات المتمدّنة من تشكّلها الاجتماعي وما ينطوي عليه هذا التشكل من نظم، سوى تحقيق أقصى ما تستطيع من المزايا الحياتية المادية. لذلك لا تجد هذه المجتمعات أيّ موجب لالتزامها بغير القوانين والضوابط التي تؤمّن لها أهدافها المادية.

 

ومن البديهي أنّ مثل هذا المحيط الحياتي لن يقيم وزنًا للمعنويات إلّا بالقدر الذي تكون فيه الجوانب المعنوية ذات صلة بتطلعات الناس المادية. على سبيل المثال، تُعدّ قيم كالصدق والاستقامة والرجولة والشهامة والمحبة والإحسان وغيرها من الفضائل الأخلاقية ذات نفع وفائدة يجب الالتزام بها إذا كان لها دور تؤديه في تأمين المنافع المادية لهذه المجتمعات. أما إذا لم تتّفق هذه الفضائل مع منافع الناس واصطدمت معها، فلا يوجد حينئذ مبرر للالتزام بها، بل يسود ما يعارضها طالما كان يستجيب للمتطلبات المادية.

 

بناءً على هذا، لا يجد السّاسة والهيئات الحاكمة والمؤسسات الرسمية من وظيفة يضطلعون بأدائها - في تلك المجتمعات - سوى تأمين المنافع الاجتماعية. وعلى هذا الضوء، يبادرون إلى إبرام المعاهدات التي تتوافق مع المصالح القائمة وتحقق المنافع الآنية. أما قيمة هذه المعاهدات فهي مسألة ترتبط كل الارتباط مع الوزن الدولي للدولة وطبيعة قدراتها وميزان القوى الذي تتمتع به قياسًا إلى الدول الأخرى.

 

في مثل هذا الجو، من البديهي أن يتعلق مصير المعاهدات على تعادل القوى بين الطرفين، حتى إذا ما كان أحد الطرفين أقوى من الآخر، فإنه سيميل إلى خرق المعاهدة وعدم الالتزام بها، بذرائع مصطنعة وتهم لا نصيب لها من الصحة. أما لماذا تلجأ الدولة القوية في نقضها لمعاهداتها مع الدولة الضعيفة إلى اصطناع الذرائع والمسوغات، فذلك يعود إلى حرص يهدف أساسًا للحفاظ على الظاهر العام للقوانين والمواثيق العالمية، لما في نقض هذا الظاهر من عوائد سلبية تؤثر على حياة المجتمع أو تعود بالخطر على بعض مصالحه الحياتية. وفي خلاف ذلك، كانت هذه الدول ستبادر إلى النقض الصريح من دون أن تلجأ إلى عذر أو مسوغ.

 

من جهة ثانية، يكون التوسل بالكذب والخيانة، والتجاوز على الآخرين، أمورًا عادية في كسب المنافع المادية وتحقيق المصالح، وذلك لعدم وجود الرادع الأخلاقي القائم على أساس القول بأصالة الأخلاق والقيم المعنوية. بل لا تعدو هذه الأخيرة - الأخلاق والقيم المعنوية - أن تكون محض وسائل يُلجأ إليها لتحقيق ما يبغيه المجتمع من استثمار أفضل للحياة المادية.

 

إنّ التأمل بالمسار العام للتاريخ العالمي، وبالذات الحوادث التي شهدها العالم خلال القرن الأخير، يزودنا بشواهد ناطقة حيّة لما ذكرنا من قيمة المعاهدات والمواثيق - في الحياة الدولية - ولبواعث النقض التي أشرنا إليها. أما حين نأتي إلى الإسلام، فسنجد أنّ رؤيته لا تعتبر الحياة المادية هي الحياة الحقيقية للإنسان، وفي الوقت نفسه لا تنظر إلى تحقق مزايا تلك الحياة (المادية) عنوانًا للسعادة الواقعية.

 

ميزان الإسلام في نظرته إلى الحياة الإنسانية الحقيقية يقوم على الجمع بين المادة والمعنى، أما السعادة الحقيقية فهي بنظره تتمثل فيما يحقق سعادة الدنيا والآخرة معًا. والذي يترتب على هذه الرؤية أن مستند قوانين الحياة على أساس الفطرة ونظام الخلق والتكوين، لا أن تقوم على أساس ما يراه الإنسان محققًا لمنافعه.

 

ويترتب على هذه الرؤية أيضًا أن تقوم دعوة الإسلام على أساس اتباع الحق، وليس على أساس الميل إلى هوى النفس ورغباتها، أو الجنوح إلى رغبات الأكثرية التي تعكس بدورها عواطف وأحاسيس الناس الداخلية. على هذا، نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1)، وكذلك قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (2). وقوله تعالى: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ)(3)، وقوله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)(4).

 

ولازمة هذا المعنى أن تقوم دعوة الإسلام على أساس رعاية العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، بحيث لا تجنح تعاليمه نحو المادة وحدها، ولا تنزع إلى عالم المعنى وحده، بل هي تحرص دائمًا على رعاية الفضائل الإنسانية، سواء أكانت بنفع الإنسان أو بضرره. على أننا نقطع يقينًا أن اتباع الإنسان للحقيقة وعدم تنكبه عن طريق الحق، لا يمكن أن يعودا بضرر عليه.

 

أما ما نراه من نقض الله (سبحانه) لميثاق المشركين [في سورة التوبة]، فإنما كان لنقضهم العهد ابتداءً. ومع ذلك، فقد أبت رحمته (سبحانه) إلّا أن يمنحوا أجلًا مقداره أربعة أشهر. أما المشركون الذين ظلوا أوفياء لعهودهم، فقد جاء الأمر القرآني بالبقاء على العهد معهم والوفاء إليهم، رغم أن مسار الأحداث يومئذ كان يؤثر على ذلة الموقف الذي كان فيه المشركون، ويشير إلى تزايد قدرة الإسلام ومهابته وقوة شوكته أمام ضعف المشركين.

 

وفي الوقت الذي أمر القرآن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالوفاء إلى من يفي من المشركين بمواثيقه وعهوده، فقد أمره أن ينقض عهد من يخون وينقض منهم، بشرط أن يجهر (صلى الله عليه وآله وسلم) به علنًا ويعلنه رسميًّا على الملأ؛ لأن الله لا يحب الخوّان والخيانة.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) الروم: 30.
(2) التوبة: 33.
(3) المؤمنون: 90.
(4) المؤمنون: 71.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد