الرياء
يمكن لأي عمل أن يُنجز لنيل رضا الله وأن يُضفى عليه صبغة العبادة، ولكن يوجد هناك أعمال لا بدّ من قصد القربة فيها والامتثال للأمر الإلهيّ أثناء أدائها، وإذا لم تؤدَ وِفق هذه النيّة، لا أنّها تكون فاقدة للثواب فحسب، بل تستوجب العذاب. وفي هذه الأعمال التي تُعتبر عبادة بالمعنى الخاصّ للكلمة، فإنّ النيّة شرط لصحّة العمل؛ بناءً عليه مع فرض عدم صحّة النيّة يكون ذاك العمل باطلًا... وإنّ هناك عبادات أخرى غير الصلاة تتقوّم بالنيّة أيضًا، وفي حال أدّاها العبد بنيّة الرّياء فإنّها تصبح باطلةً.
بالطبع، هناك أبحاثٌ بين الفقهاء فيما يتعلّق ببعض العبادات مثل الخمس والزكاة، وهي أنّه لو لم ينوِ الإنسان فيها قصد القربة فهل يعني ذلك أنّ التكليف المالي لم يسقط عنه، أم أنّه يسقط ولكنّه يُعدّ مذنبًا بسبب قيامه بهذه الفريضة مراءاةً، أو أنّ الرّياء في الخمس والزّكاة ليس مبطلًا للعمل ولا يُعدّ معصيةً، إنّما فقط يؤدّي لأن يخسر صاحبه ثواب العمل، فمثل هذه المباحث تخصّصيّة وترتبط بالفقهاء والمراجع وهي خارجةٌ عن مورد بحثنا.
هناك أعمالٌ، يمكن تقسيمها بالتقسيّم الكلّيّ إلى فئتين، إذا ما تمّ أداؤها بصورة العبادة وتمّ ملاحظة قصد القربة فيها: الفئة الأولى منها، هي تلك الأعمال التي ليس لها ماهية وعنوان أصلي سوى إظهار العبوديّة في محضر الله، ولم يُلحظ فيها أيّ وجهٍ آخر، مثل الصيام والصلاة والحج.
أمّا الفئة الثانية فهي تلك الأعمال التي لم يكن القصد والغرض الأصليّ فيها إظهار العبودية في محضر الله، ولكنّ قصد القربة قد اعتُبر شرطًا فيها في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، إنّ الهدف الأساسيّ لتشريع الزكاة هو إعانة المساكين والمحتاجين وتأمين المصارف الأخرى التي حُدّدت في الزكاة، وفي الوقت نفسه تمّت ملاحظة قصد القربة أثناء أدائها. وقد كان الإمام الخمينيّ، قائد الثورة الكبير، يُعبّر عن هذه الأفعال بالأفعال القربيّة.
ففي مثل هذا النوع من الموارد، التي تكون ماهية الفعل عبارة عن إظهار العبوديّة بين يديّ الله، يجب أداء العمل بصورةٍ خالصةٍ بقصد القربة، ولا ينبغي أن يكون فيه أيّ قصدٍ أو نيّةٍ أخرى. فلو أنّ الشخص الذي يصلّي، صلّى من أجل امتثال الأمر الإلهيّ من جهة، وكذلك من أجل الرّياء والحصول على مدح النّاس، فإنّ صلاته لا تكون باطلة وفاقدة للثواب فحسب، بل تُعدّ معصيةً. ولكن هناك موارد أخرى كالإنفاق، الذي لا تكون ماهيّته عبارة عن إظهار العبوديّة، فإذا لم يؤدَّ بقصد القربة، فإنّ أثره بحسب الظّاهر سيكون منحصرًا بهذا الحدّ، وهو أنّ هذا العمل لن يعود على صاحبه بالنفع لكنّه لا يستوجب العذاب والعقاب أيضًا. ففي الإنفاق مثلًا، سيكون حال مثل هذا الشخص مثل ذاك الذي رمى ماله في البحر[1].
إنّ فائدة ومؤثّرية هذا النوع من الأعمال يكمن في تأديتها بقصد القربة، أي أنّ قصد القربة مقوّمٌ للعمل ومن دونه لن يكون للعمل رسمًا حتى يكون له أثر. وبتعبير القرآن يجب أن يكون فيه: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾[2]، و﴿ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلى﴾[3].
وعلى كلّ حال، إذا أردنا لأيّ عملٍ أن يتّخذ صبغة العبادة فلا بدّ من القيام به بنيّةٍ خالصةٍ وبقصد القربة، ولأجل إكمال هذا البحث نشير إلى عدّة روايات.
وقد جاء في حديثٍ قدسيّ: “اَنَا خَيْرُ شَريك فَمَنْ عَمِلَ لي وَلِغَيْري فَهُوَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ غَيْري”[4].
إنّ لكلّ شخص من الأشخاص الذين يشاركون في عملٍ ما سهم معيّن من الربح والمردود الحاصل منه. الله تعالى يقول أنا خير شريكٍ؛ وذلك لأنّني أصرف النظر عن كامل حصّتي، مهما كانت كبيرة وأعطيها لشريكي. فلو أدّيت صلاةً وكان 99% منها لله، و1% منها للنّاس، سيصرف الله النظر عن سهمه البالغ 99% ويعطيه للنّاس لكي تكون كلّ صلاتك لهم. فكلّ عبادةٍ فيها أدنى سهم لغير الله، فسوف تُبتلى بذلك المصير وسوف يردّها الله تعالى كلّها؛ ويكون الرد أحيانًا مقتصرًا على بطلان العمل وفقدانه للثواب، وفي أحيانٍ أخرى، علاوة على ذلك، يعقبه العذاب[5].
علامات الإخلاص والرّياء
لأجل تحديد فيما إذا كانت نيّة الإنسان خالصةً أثناء القيام بأي عمل أم لا، يوجد طُرق مختلفة وعلامات، لو قام المرء بالتدقيق فيها، فسوف يتّضح له اتّضاحًا كاملًا فيما إذا كانت نيّته خالصةً أم لا.
فلو قام أحدٌ ببناء مشفًى، عليه أن ينظر هل أنّهم إذا كتبوا اسم شخصٍ آخر مكان اسمه على هذه المشفى، سيكون لهذا الأمر أهميّة بالنسبة له وسوف ينزعج أم لا؟ فلو كان العمل للّه، فلا ينبغي أن يختلف الأمر بالنسبة له سواء كتبوا اسمه أم لم يكتبوا، ولو رأى عكس ذلك، فهذا دليلٌ على أنّ عمله لم يكن خالصًا. في بعض الأحيان يكون الرياء في العمل خفيًّا على الإنسان نفسه، وهو يتصوّر أنّ عمله كان خالصًا في حين أنّ الأمر في الواقع لم يكن كذلك.
إنّ من وظائف علماء الأخلاق هو أن يسعوا لتنبيه الإنسان إلى دوافعه الخفيّة وغير المرئيّة في سلوكه وعمله والتي لا يكون ملتفتًا إليها. فعلى سبيل المثال لو أنّ هذا الإنسان صلّى في مسجدٍ وبين جماعة عليه أن ينظر فيما لو لم يأتِ هؤلاء الناس وكان لوحده في المسجد، فهل كان سيؤدّي صلاته على النحو نفسه؟ ولو كان الجواب سلبيًّا فليعلم أنّ الرياء قد وجد طريقًا إلى صلاته. ولو كان الظلام دامسًا ولم يتمكّن الآخرون من ملاحظة حركاته ووجهه وأفعاله في حال الصلاة، فهل كان ليتصرّف بالطريقة نفسها الآن وقد أصبح المصباح مضاءً وأضحى بإمكان الآخرين مشاهدة حركاته؟ فلو كان الجواب سلبيًّا، فهذا علامة على أنّ عمله كان رياءً. ولو كان يصلّي دائمًا في مكانٍ معيّن من المسجد، ثمّ صدف في أحد الأيّام أنّه لم يتمكّن من الصلاة في مكانه المعتاد، فهل كان لينزعج؟ فإذا انزعج فإنّ هذا علامة على أنّ عمله لم يكن خالصًا، بل ربما يوجد لموقعيّة العمل أيضًا تأثيرٌ في فعله!
أو لو أنّه على سبيل المثال كان إمامًا للجماعة وحصل له أن أخطأ في الصّلاة ولاحظ أنّه بسبب هذا الخطأ اعتراه الخجل وسال العرق على جبهته، فهذا علامة على أنّ لحضور الناس أو عدم حضورهم أهميّة بالنسبة له، لأنّه لو لم يكن الناس موجودين لما كان خجل من خطئه، ولكن حيث إنّ الناس الآن موجودون فإنّه يخجل، وهذه مرتبة من مراتب الرياء.
أو لو كان الإنسان يذهب مع صديقه كلّ يومٍ إلى المسجد، وصادف أنّ صديقه اليوم كان مشغولًا ولم يأتِ، لذا لم يذهب إلى المسجد، فمن الواضح أنّ قصده لم يكن خالصًا في الأيّام السابقة، بل كان لمجيء صديقه دخالة في نيّته.
وحول هذه المسألة بالتحديد، ينقل المرحوم الحاج الميرزا جواد آغا الملكي التبريزي (رضي الله عنه)، في كتاب “أسرار الصلاة” هذه القصّة:
كان أحد الوجهاء يصلّي لسنوات في جماعة أحد العلماء الكبار، وكان دائمًا يقف في الصفّ الأوّل وفي مكانٍ خاصّ. في أحد الأيّام، حين وصل إلى الصّلاة كان الصفّ الأوّل قد اكتمل ولم يجد له مكان في ذلك الصفّ وفي ذلك المكان الخاصّ، فاضطرّ لأن يقف في مكانٍ آخر. وأثناء الصّلاة، شعر بالخجل لأنّه كان يصلّي في ذلك الصفّ، وفي ذاك المكان، وذلك لأنّ الناس كانوا دائمًا يشاهدونه في الصفّ الأوّل، وها هم اليوم يرونه يصلّي في الصف الثاني مثلًا، ممّا جلب لنفسه الشعور بالخجل!
وقد نقل المرحوم الحاج الميرزا جواد آغا ملكي، أنّه بعد هذه الحادثة قام هذا الرّجل الوجيه بإعادة صلواته التي صلّاها على هذه الحالة لمدّة ثلاثين سنة، وكان يقول إنّني حتّى اليوم لم أكن أعلم أنّني كنت أصلّي من أجل أن يراني الناس في الصفّ الأوّل، واليوم رأيت أنّني خجلت من الوقوف في الصفّ الثاني، فأدركت أنّ نيّتي لم تكن خالصةً وأنّ هناك شيء دخيلٌ فيها غير الله. فلو كانت خالصةً لله، لما كان ينبغي أن يكون هناك أي فرق بالنسبة لي بين الصفّ الأوّل والثاني، فربّ الصفّ الثاني هو ربّ الصفّ الأول أيضًا، لا يوجد أي فرق!
وكذلك ينقل المرحوم الحاج الميرزا جواد آغا ملكي التبريزي في كتاب “أسرار الصلاة” قصّة أخرى على هذا النحو:
كان هناك شخصٌ يرغب في أيّام محرّم، حيث تُقام مجالس العزاء المختلفة، بالمشاركة في مجلسٍ خاصّ، وفي أحد الأيّام شعر في نفسه وكأنّ ذاك المجلس الخاصّ قد كان له أهميّة بالنسبة له، ففكّر في نفسه وقال: لو كنت أذهب للمشاركة في مجالس العزاء من أجل البكاء على الإمام الحسين وإقامة العزاء لسيّد الشهداء، فإنّ المجالس من هذه الجهة لا تختلف فيما بينها، فلماذا كنت أرغب دومًا في أن أذهب إلى ذلك المجلس الخاصّ؟ وبقي مدّةً يفكّر في نفسه حتّى أدرك في النهاية وبعد مشقّةٍ ما هو السبب الذي جعل ذلك المجلس يتمتّع بتلك الخصوصيّة التي كانت سببًا في ترجيحه على غيره، وهكذا وبعد هذه الحادثة قرّر أن يشارك في تلك المجالس التي لا يكون لها أيّ خصوصيّة بالنسبة له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] . بالطبع إنّ هذا العمل من حيث كونه إسرافًا يُعدّ معصيةً ويستوجب العقاب، ولكنّه لا يستوجب العقاب من جهة عدم إنفاقه.
[2] . سورة الأنعام، الآية 52.
[3] . سورة الليل، الآية 20.
[4] . بحار الأنوار، الجزء 72، الباب 116، الرواية 32، الصفحة 299.
[5] . يجب الالتفات إلى أنّ النيّة ليست شيئًا يصلح من المرّة الأولى، بل يحتاج إلى مقدّمات. الأمر ليس أنّ الإنسان كلّما أراد أن يقوم بفعلٍ يمكن أن يقوم به بأيّ نيّةٍ، فلأجل إخلاص النيّة، يجب على الإنسان أن يهيّئ ويعد المقدّمات مسبقًا، ومثل هذه المقدّمات من قبيل المعرفة والإيمان والتوجّه.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ حسين الخشن
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
التعددية الدينية
زيادة الذاكرة
الضمائر في سورة الشمس
متى وكيف تستخدم الميلاتونين المنوم ليساعدك على النوم؟
تراتيل الفجر، تزفّ حافظَينِ للقرآن الكريم
في رحاب العيد
لنبدأ انطلاقة جديدة مع الله
المنطقة تحتفل بعيد الفطر، صلاة ودعاء وأضواء وتواصل
من أعمال وداع شهر رمضان المبارك
العيد الامتحان الصعب للحمية