الرياء الخفيّ
إذا كانت العبادة خالصةً فإنّ قيمتها ستكون بمستوى قد لا تتمكّن الملائكة في بعض الأحيان من تحديد قيمتها، ولا يكون سوى الله تعالى قادرًا على إحصاء ثوابها. أمّا إذا لم تكن نية العمل خالصةً فإنّ هذا العمل سيكون مثل البضاعة المزيّفة التي لا تحوز على أيّ قيمة، أو مثل الغذاء المسموم الذي لا يكون فاقدًا للقيمة فحسب، بل يكون قاتلًا ومضرًّا أيضًا. ومن زاوية الأحكام الإسلاميّة، فإنّه لو سقطت قطرة دمٍ بمقدار رأس إبرة في وعاءٍ كبيرٍ جدًّا يحتوي على شرابٍ أو غذاءٍ سائل، فإنّ كل ذاك الشراب أو العصير أو الغذاء سيصبح نجسًا، وينبغي التخلّص منه وإهراقه بالرغم من كل المشقّات التي بُذلت من أجل إعداده والأموال التي أُنفقت لتأمينه.
وفي بعض الأحيان، قد تكون أعمال الإنسان العبادية على هذا النحو. فمن الممكن أن نؤدّي عبادة ما، مع آلاف المشقّات والمتاعب، ولكن لأنّنا كنّا نحمل في أنفسنا مقصدًا غير إلهيٍّ ولو كان بدرجةٍ صغيرةٍ جدًّا، فإنّ ذلك العمل بأسره يكون قد ضاع وذهب هباءً. ووفق الروايات، فإنّ الله تعالى يخاطب ملائكته ويأمرهم بأن يضربوا بهذا العمل وجه صاحبه[1].
من هنا، ينبغي أن نتوجّه، بالإضافة إلى ظاهر العبادة ومراعاة مسائلها الشرعيّة وأدائها بصورةٍ صحيحة، إلى النيّة فيها أيضًا، لكيلا ندرك ـ لا سمح الله ـ بعد مرور سنواتٍ على العبادة أنّ قصدنا لم يكن خالصًا، وأنّ عبادتنا طيلة هذا العمر لم تثمر أيّ ثمرةٍ لنا.
يوجد رواية ذُكرت في كتب الشيعة، وكذلك في كتب أهل السنّة، وهي أنّ الرسول الأكرم (ص) وبعد أن اعتبر الرياء نوعًا من الشرك، قال: “إنّ الشِّرْكَ اَخْفى مِنْ دَبيبِ النَّمْلِ عَلى صَفاة سَوْداءَ فِي لَيْلَة ظَلْماءَ”[2].
إنّ النملة حشرةٌ صغيرةٌ جدًّا ولا تمتلك أيدٍ وأرجل طويلة، كما أنّ هذه الصخرة تكون صافيةً وملساء، وبناءً عليه فإنّ حركة مثل هذه النملة على الصخرة الصافية الملساء لا تحدث أي احتكاك أو اصطكاك ولا يمكن أن يصدر عن دبيبها أيّ صوتٍ مسموع يلتفت إليه سمع الإنسان. ومن هنا إذا كان هذا الدبيب في ليلةٍ ظلماء فإنّه سيكون خفيًّا من جميع الجهات ولا يمكن الشعور به بحيث يمكن للإنسان أن يجد طريقًا لإدراكه فتبقى هذه الحركة خفيّةً خفاءً كاملًا، وقد ذكر النبيّ (ص) أنّ نفوذ الشرك في قلب الإنسان هو أشدّ خفاءً من هذا الدبيب. ومن هنا، فإنّ الرّياء الذي يُعدّ نوعًا من الشرك يمكن أن يكون بمثل هذا الخفاء، ولعلّ هذه الآية الشريفة تشير إلى هذا النوع من الشرك، حيث يقول تعالى: ﴿وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[3].
بالطبع، للشرك مصاديق ومراتب متعدّدة وعلى الإنسان أن يطلب من الله تعالى ويسعى بنفسه لأداء عباداته بعيدًا عن أيّ نوعٍ من الشرك والرياء والدوافع غير الإلهيّة.
وفي بعض العبادات، فإنّ تمييز الرياء عن غير الرياء، يكون أسهل وفيه علائم أكثر وضوحًا. فالدعوة واعتلاء المنبر للخطابة، الذي هو عملنا نحن طلّاب العلوم الدينيّة، يُعدّ من هذه الموارد. ولا شكّ بأنّ هداية الناس وإرشادهم وترويج دين الله وبيان الأحكام والمعارف الإسلاميّة، كلّ ذلك يُعدّ من أكبر العبادات. وقد ورد في روايةٍ عن النبيّ الأكرم (ص) وهو يخاطب أمير المؤمنين عليًّا (ع): “لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحِداً خَيْرٌ لَكَ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ”[4].
بناءً عليه، فإنّ لهداية النّاس فضيلة لا يمكن أن توصف وثوابًا أعلى من أيّ تصوّر. لكنّ هذا العمل نفسه، الذي له كل هذا الثواب، إن لم يكن لله فلا يحوز على أي قيمة. إنّ كلّ هذا الثّواب إنّما يرجع إلى كون التبليغ والخطابة والهداية هم فقط وفقط من أجل نيل رضا الله. لكن من أين لنا أن نعرف إن كان هذا العمل للّه أم لا؟ أحد السبل لإدراك ذلك هو أن نرى لو كان هناك مبلّغٌ أو واعظٌ آخر قد ألقى هذا الكلام نفسه وأدّى كلامه إلى هداية شخصٍ ما، هل أنّنا حقًّا سنكون مسرورين بالقدر نفسه، أم أنّنا مسرورون الآن ونشعر بالرضا لأنّ هذا العمل قد أُنجز على أيدينا؟ فلو كان هدفنا فقط هداية الناس، فلا ينبغي أن يكون هناك أي فرق بين الحالتين. أو لو أنّكم بنيتم مشفى فصار النّاس يأتون إليه للعلاج وهو يقدّم العلاج المجّانيّ للمحتاجين فسوف يصلكم ثواب ذلك، سواءٌ وُضع اسمكم على هذا المشفى أم اسم شخصٍ آخر. فمن هذه الجهة لو كان الهدف في الواقع نيل رضا الله فإنّه يحصل باسمٍ أو بغير اسم، أمّا إذا أصرّ مثل هذا الإنسان على وضع اسمه على هذا المشفى فلا ينبغي أن يشكّ في عدم إخلاص نيّته.
بالطبع، إنّ الوصول إلى مثل هذه المراتب من الإخلاص ليس أمرًا سهلًا، بل يحتاج إلى السعي والكدح الكثير، مثل هذا العمل هو الذي يحوز على القيمة ويستحقّ مثل هذه المشقّة، لأنّ الفارق بين العمل الخالص والعمل غير الخالص كالفرق بين السماء والأرض.
قصّة حول الرياء والإخلاص
يُنقل عن العّلامة المجلسي قصّة، لا أعلم مدى صحّتها، ولكن على أيّ حال إنّ لهذه القصّة عبرة واقعيّة وإن لم تحدث بهذا الشكل. يُنقل أنّه بعد وفاة العلّامة المرحوم المجلسي، رآه أحد الأشخاص في منامه وسأله: ما هو الشيء الذي أدّى إلى نجاتكم، ومن بين كل الخدمات التي قمتم بها والكتب التي ألّفتموها، والدروس التي أعطيتموها، أيّها كان الأكثر نفعًا لكم؟ فأجابه قائلًا: لم يكن لأيٍّ من هذه الأعمال التي قمت بها ذلك الأثر الذي توقّعته، فأثناء الحساب كان لكلّ منها عيوب ومشكلات. فسُئل ما هو الشيء الذي أدّى إلى نجاتكم؟ فقال: كنت ذات يوم أمرّ في زُقاق وأحمل بيدي تفّاحة، وأنا على هذا الحال، وإذ بامرأة (ويبدو أنّها كانت يهوديّة) تمرّ من ذلك المكان وهي تحمل ابنها في حضنها؛ فوقع نظر الطفل على التفاحة التي بيدي، وفهمت من حركاته أنّه يسعى لأخذ التفاحة من يدي. وحين التفتت أمّه إلى ذلك منعته وأمسكت بيده. فتقدّمت مباشرةً إلى هذا الطفل وأعطيته تلك التفاحة من أجل إسعاده. وأنا الآن في هذا العالم يُقال لي أنّ عملك الخالص مئة بالمئة كان هذا العمل الذي لم يكن فيه شائبة التملّق إلى السلطان أو الشهرة أو التفاضل العلمي والمباهاة وأمثالها و… فقد وهبت تلك التفّاحة لأجل رضا الله فقط من أجل أن يسعد قلب ذلك الطفل.
على أيّ حال، ما هو مهمٌّ عند الله هو الخلوص والطهارة. فالله تعالى يحبّ أن تكون معاملة عباده معه خاليةً من الغلّ والغشّ. والله لا يقبل إلّا ما كان له خالصًا مئة بالمئة وإلّا فإنّه يقول أنا خير شريك وإنّني أتنازل عن حصّتي للشركاء الآخرين الذين جعلتموهم معي من وراء أعمالكم[5].
فالله لا ينظر إلى حجم العمل وكبره وصغره وظاهره، بل ما هو مهمٌّ عنده هو تلك النيّة التي تقف وراء ذلك العمل. إنّ روح العمل هو النيّة ويجب علينا أن نوصل معرفتنا ومحبّتنا لله لذلك الحدّ الذي ينبع منه الخلوص والطّهر بصورةٍ تلقائيّة. فلا ينبغي لنا أن نبتهج بأنّنا عبدنا الله واجتنبنا معاصيه؛ فلعلّنا عند القيام بهذه العبادة أو الابتعاد عن المعصية، كنّا نمدّ النظر إلى غير الله، فكنا نريد مثلًا أن يمدحنا الناس أو أن نصبح مشهورين بالزهد والتقوى، أو … فإن لم يكن العمل لله فإنّ حسابه سيكون أيضًا على من قمنا بالعمل من أجلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. فلاح السائل، الصفحة 121.
[2] . وسائل الشيعة، الجزء 16، الباب 36، الرواية 21501، الصفحة 254.
[3]. سورة يوسف، الآية 106.
[4]. بحار الأنوار، الجزء32، الباب 12، الرواية 394، الصفحة 448.
[5]. بحار الأنوار، الجزء 72، الباب 116، الرواية 32، الصفحة 299.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ حسين الخشن
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
التعددية الدينية
زيادة الذاكرة
الضمائر في سورة الشمس
متى وكيف تستخدم الميلاتونين المنوم ليساعدك على النوم؟
تراتيل الفجر، تزفّ حافظَينِ للقرآن الكريم
في رحاب العيد
لنبدأ انطلاقة جديدة مع الله
المنطقة تحتفل بعيد الفطر، صلاة ودعاء وأضواء وتواصل
من أعمال وداع شهر رمضان المبارك
العيد الامتحان الصعب للحمية