“ثُمَّ آثَرْتَنَا بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، واصْطَفَيْتَنَا بِفَضْلِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَصُمْنَا بِأَمْرِكَ نَهَارَهُ، وقُمْنَا بِعَوْنِكَ لَيْلَهُ، مُتَعَرِّضِينَ بِصِيَامِهِ وقِيَامِهِ لِمَا عَرَّضْتَنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ، وتَسَبَّبْنَا إِلَيْهِ مِنْ مَثُوبَتِكَ، وأَنْتَ الْمَلِيءُ بِمَا رُغِبَ فِيهِ إِلَيْكَ، الْجَوَادُ بِمَا سُئِلْتَ مِنْ فَضْلِكَ، الْقَرِيبُ إِلَى مَنْ حَاوَلَ قُرْبَكَ، وقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشَّهْرُ مُقَامَ حَمْدٍ، وصَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُورٍ، وأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَدْ فَارَقَنَا عِنْدَ تَمَامِ وَقْتِهِ، وانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ، ووَفَاءِ عَدَدِهِ”. (من دعاء الإمام السجاد (ع) في وداع شهر رمضان)
معنى قرب الله التكوينيّ من المخلوقات
طُرحت، في مناسبات مختلفة، العديد من الأبحاث حول مسألة القرب الإلهيّ، لكنّ هذه المسألة على درجة من البُعد عن فهم عالمنا وأوضاعه المعيشيّة، بحيث إنّنا لو تحدّثنا عنها كلّ يوم، لما كان ذلك كثيرًا. وبحقّ، ما معنى قرب الإنسان من الله تعالى؟...
إنّ الألفاظ توضع في البداية لأمور حسّية، ثمّ تجري توسعتها لمناسبةٍ ما، لتشمل بذلك حتّى الأمور غير المادّية؛ وقد خضع لفظ “القرب” بدوره للعمليّة ذاتها. إذ لا نستخدم هذا اللفظ، إلّا حينما نقارن بين جسمَين، فنرى عدم وجود فاصلة مكانيّة كبيرة بينهما، أو عدم وجود أي فاصلة بينهما من الأساس؛ وعليه، لكي ننسب هذا المفهوم [لشيء ما]، فإنّنا نقيس الفاصلة القائمة بين موجودين مشتركين في المكان، فإن كانت يسيرة، فإنّنا نقول إنّ الجسمَين قريبان من بعضهما، وإن كانت بعيدة، فإنّنا نقول إنّهما بعيدان عن بعضهما.
وبهذا النحو، يتبلور معنى القرب في العالم الجسمانيّ، وهو معنى نسبيّ يتحقّق بين جسمَين يُفرض وقوعهما على خطّ مستقيم. لكنّنا لم نكتف بهذا المعنى للقرب، بل وسّعنا مفهومه ليشمل القرب الزمانيّ أيضًا. فمن باب المثال، قد تقع حادثة قبل مئة سنة، وحادثة أخرى قبل خمسين سنة، وثالثة قبل سنة واحدة، بحيث تكون الحوادث الثلاث واقعة على عمود زمانيّ واحد، بمعنى أنّ هناك امتدادًا واحدًا يضمّ هذه الحوادث معًا؛ لكن، تجدنا عادةً نقيسها على زماننا، فننسب القرب إلى الحادثة التي تفصلها عن زماننا مدّة أقصر. ومن هنا، فإنّ أصل معنى القرب يُشير إلى علاقة قائمة بين جسمَين، أو حادثتَين في المكان أو الزمان.
لكن، بعدما علِمنا بوجود أمور غير مادّية أيضًا توجد بينها نسبةٌ ما، فإنّنا أصبحنا نستخدم في حقّها لفظَي “القرب” و”البعد” بحسب الموارد المختلفة. وعلى سبيل المثال، إذا كان لدينا موجودان أحدهما محتاج للثاني، والثاني غنيّ عن الأوّل، فإنّنا نقول عن الموجود الغنيّ عن الموجود الآخر إنّه قريب من الغنيّ المطلق، بينما يكون الموجود المحتاج بعيدًا عن الغنيّ المطلق؛ وأمّا إذا كان كلا الموجودين محتاجين، فإنّنا نلحظ في عمليّة المقارنة شدّة الاحتياج أو ضعفه.
ففي العلاقات الوجوديّة، كلّما كانت الوسائط القائمة بين الموجودَين المحتاج والغنيّ أكثر، فإنّنا نقول إنّ الموجود المحتاج أبعد من الغنيّ؛ وفي المقابل، كلّما كانت هذه الوسائط أقلّ، فإنّنا نقول إنّه أقرب. ومن باب المثال، فإنّنا نقول عن أوّل مخلوق لله تعالى: إنّه قريب وجودًا من البارئ عزّ وجلّ. لقد ترسّخ هذا الاستعمال بعد توسعة مفهوم القرب، وتسريته لدائرة الأمور غير المادّية.
فأيًّا كان المخلوق، وفي أيّ مكان كان، فإنّ خالقه يكون معه، ومهيمنًا عليه، بحيث لو انعدمت هذه العلاقة القائمة بينه وبين خالقه، لانعدم هو أيضًا. ولتقريب هذه المسألة إلى الأذهان، بوسعنا القول: إنّ إرادتي معلولة لي؛ أي إنّني أنا الذي أريد، وأُوجد هذه الإرادة، حيث تُعدّ هذه الإرادة أقرب شيء إليّ؛ فحينما أريد، توجد هذه الإرادة من دون أن تكون هناك أيّة فاصلة بيني وبينها؛ وحينما لا أريد، فإنّها تُعدم.
وإننا بعدما عَلِمنا أنّ لعالم الوجود بأسره خالقًا يوجد بإرادته كافّة المخلوقات إمّا بواسطة أو بدونها، فقد توصّلنا إلى أنّه: مثلما لا توجد بين هذا الخالق وبين إرادته أيّة فاصلة، كذلك لا توجد بينه وبين الأشياء القائمة بإرادته أيّة فاصلة أيضًا؛ وبالتالي، فإنّ لله تعالى قربًا ذاتيًّا وتكوينيًّا بالنسبة إلى كافّة مخلوقاته، بحيث لو لم يُرد، لما وُجد أيّ شيء، وعلى حدّ تعبير الشاعر: “اگر نازى كند، از هم فروريزند قالبها” أي (لو أراد أن يُبرز دلاله، لتحطّمت كلّ القوالب؛ والمراد من ذلك: لولا عنايته، لما استقام حجر على حجر). إذ شُبّهت الإرادة الإلهيّة في هذا الشعر بالروح التي تُنفخ في قوالب الأجسام، بحيث لو لم توجد تلك الروح لحظةً واحدة، لتحطّمت هذه القوالب أيضًا.
ولا يخفى أنّ هذا مجرّد تشبيه وبيان ذوقيّ، ومن المسلّم أنّ الحقيقة أعلى من ذلك بكثير. ولعلّ أفضل تشبيه لإبراز هذا القرب الذاتيّ: علاقة الإنسان بصوره الذهنيّة، والتي تكون موجودةً ما دام الإنسان متوجّهًا إليها، لكن، ما إن يقطع توجّهه إليها – لأيّ سبب كان – حتّى تختفي هذه الصور. أجل، حينما يُريد الإنسان القيام بفعل ما، قد يكون هذا الفعل بحاجة إلى بعض المقدّمات التي يُشترط تحقّقها أوّلًا، لكن، يبقى أنّه لا يوجد أيّ شيء يفصل بين الإنسان وإرادته.
وبالنظر إلى هذه الحقائق، يكون بوسعنا بيان علّة عدم وجود أيّ فاصلة بين الله تعالى ومخلوقاته، وهي أنّ هذه المخلوقات بأسرها عبارة عن تجسّم ومظهر لإرادته سبحانه. وفي الحقيقة، فإنّ إرادة الله تعالى تحقّقت، فوُجدت المخلوقات. ولهذا، لا يُمكن لهذه المخلوقات أن تنفصل عن البارئ عزّ وجلّ، لأنّ انفصالها يعني انعدامها. وبالتالي، فإنّ المخلوق لا يستطيع الانفصال عن الله والبعد عنه، وتُرشدنا هذه الحقيقة إلى القرب التكوينيّ لله تعالى من كافّة الموجودات، ومن ضمنها الإنسان.
ولا يخفى أنّ بوسعنا النظر إلى هذه المسألة من زاوية أخرى، وذلك بأن نقول: إذا كانت لدينا مخلوقات لا تفتقر إلى واسطة، فإنّها تكون أقرب إلى الله تعالى من المخلوقات التي تحتاج إلى واسطة.
وعلى أيّ تقدير، باعتبار أنّ المخلوقات قائمة في وجودها بإرادة الله تعالى، فإنّه ليس من شأنها أن تكون بعيدة عنه سبحانه؛ وهذا نظير إرادة الله تعالى التي ليس من شأنها الابتعاد والانفصال عن ذاته، بحيث لو ابتعدت لما عادت إرادة من الأساس. والظاهر أنّ هذا هو القرب الذي ورد في الآية الكريمة ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ﴾، ففي المحاورات العرفيّة العربيّة، توجد عبارة معروفة بينهم مفادها أنّه لا يوجد أيّ شيء أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، إذ حينما يُريدون ذبح موجود حيّ فإنّهم يقطعون وريده، ولهذا شاع بينهم أنّ أقرب شيء للإنسان، بحيث إنّ انعدامه لا يُبقي له أيّة فرصة في الحياة، هو الوريد. لقد جرت الاستعانة في الآية المبحوث عنها بهذا التشبيه والمثل المتداول، والذي يحكي عن حقيقة أنّ كل الوجود الإنسانيّ مخلوق لله تعالى، وقائم بإرادته، ولا يُمكنه الانفصال عنه؛ وهو في الحقيقة مظهر للإرادة الإلهيّة.
لقد كان هذا مثالًا على الخَلق الحقيقيّ، لكن، أحيانًا قد يُضرب مثال على الخلق بالخلق والإبداع الفنّي ونظير ذلك، غير أنّ هذه الأمثلة لا تخرج عن دائرة العبارات الشعريّة. فمن ناحية عقليّة، تُعدّ الإرادة أفضل شيء يُمكننا التمثيل به على مسألة الخلق، لأنّ الإرادة لا نصنعها من شيء آخر، بل هي – بعبارة أدبيّة – تجلٍّ لنفس الإنسان وروحه، ولا يُمكنها الانفصال عنها؛ فإرادتي لا توجد إلّا بعد أن أوجد أنا. هذا، وتمتلك كافّة موجودات العالم مثل هذه العلاقة بالذات المقدّسة للحقّ تعالى، فكما أنّ إرادتنا أقرب شيء إلى وجودنا، ونحن أقرب إليها من كلّ شيء، فإنّ علاقة الله تعالى بجميع مخلوقاته هي بالنحو ذاته.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ حسين الخشن
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
التعددية الدينية
زيادة الذاكرة
الضمائر في سورة الشمس
متى وكيف تستخدم الميلاتونين المنوم ليساعدك على النوم؟
تراتيل الفجر، تزفّ حافظَينِ للقرآن الكريم
في رحاب العيد
لنبدأ انطلاقة جديدة مع الله
المنطقة تحتفل بعيد الفطر، صلاة ودعاء وأضواء وتواصل
من أعمال وداع شهر رمضان المبارك
العيد الامتحان الصعب للحمية