إذا كان هناك جملة واحدة تختصر قضية السير والسفر إلى الله تعالى، فهي تلك التي وردت في الحديث الشريف: "التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِه".[1] الدنيا هي دار الغرور لمن اتّخذها مقرًّا وغاية، والآخرة هي دار السرور والسعادة لمن جعلها هدفًا ومقصدًا.
لا يمكن للإنسان أن يكون مسافرًا وسالكًا إلى الله تعالى وهو لم يحسم علاقته بهذه الدنيا بعد. ولا يمكن للإنسان أن يحسم هذه العلاقة إلا على ضوء التوجّه إلى الآخرة والسعي الجاد لبلوغ المقر الأبديّ، حيث مقعد الصدق عند الله تعالى.
في نسيان الآخرة استغراق في الدنيا، وفي الاستغراق بالدنيا نسيان للآخرة. وهذا الاستغراق إنّما ينشأ من الغفلة عن الحقائق المرتبطة بالدنيا والآخرة. لهذا، لا بدّ من يقظة، يعقبها النهوض والقيام لله تعالى، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}.[2]
إنّ استحضارنا الدائم للحقائق الكبرى في الحياة، وتذكّرها ليلًا ونهارًا يمنحنا هذه اليقظة التي نحتاجها للقيام والبدء برحلة الكمال والوصول إلى الله تعالى. لكن إذا أردنا أن تستقر اليقظة في نفوسنا، يجب أن نعمل ونجاهد في هذه الحياة، لأنّ الحقائق الكبرى في النفوس الضعيفة لا تبرح حتى تصبح ذكريات خافتة وصور باهتة.
في الحياة مواقف كثيرة؛ وبالاستفادة من هذه المواقف كما ينبغي يقوى حضور حقيقة الآخرة وحقيقة الدنيا في نفوسنا. ويمكن اختصار هذه المواقف بثلاثة أنواع أساسية:
النعم والأيادي الإلهية وتدابير اللطف الربّانيّ.
الذنوب التي نرتكبها والمعاصي التي تصدر منّا.
الفرص التي تسنح لنا وما فيها من نفحات إلهية.
يمكن أن يساهم التفكّر في هذه المواقف مساهمة كبيرة في إبقاء شعلة اليقظة ونورها في قلوبنا؛ ولكن بشرط أن نتصرّف على أساس ذلك بما يتناسب مع هذه المواقف.
ففي مواقف النّعم الربّانيّة، يجب أن يشعر القلب بأنّها صادرة من المنعم الوهّاب الذي لا حدّ لمننه وعطاءاته، وذلك يعني العجز واليأس عن عدّها والوقوف على حدّها. وحين يدرك القلب هذا العطاء اللامتناهي ويسقط من يده أي حساب للتبادل والمعاملة بالمثل، يجب أن يتفرّغ لاكتشاف جانب المنّة الإلهية فيها، حتى يعلم أنّه لم يكن في يوم من الأيّام مستحقًّا لأي شيء، حتى لو كان ثوابًا لعملٍ عظيم قام به. وكما يقول سيد العابدين (عليه السلام): "وأعددت ثوابهم قبل أن يفيضوا في طاعتك".[3] وهكذا، يعلم الإنسان أنّه مهما فعل، لن يكون قادرًا على أداء حقّ الله في إنعامه، ولن يكون قادرًا على تقدير هذه النّعم بحقيقتها. فنحن هنا أمام علاقة بين اثنين لا تشبهها أي علاقة؛ وهو أحد أهم معاني السفر إلى الله تعالى؛ أي أن يكون الله تعالى عندنا أعظم من أي شخص أو كائن يمكن أن نرتبط به.
ولأجل ذلك يحتاج السالك إلى الاستضاءة بنور العقل، الذي يميّز بين الكمال والنقص، والخير والشر في جميع المراتب والحالات، والخروج من نطاق الاستحقاق إلى منطقة المنّة، فلا يبقى في نفسه أي شعور بأنّه استحقّ أيّ نعمة أو ثواب أو عطاء، مهما كان هذا الأمر شائعًا وعاديًّا كالطّعام والشّراب واللباس وحتى الهداية والعلم! وإنّما يقوى هذا النّظر بفضل الاعتبار من أهل البلاء، الذين لم يحصلوا على ما حصلنا عليه، حيث كان بالإمكان أن يجعلنا الله تعالى مثلهم، ولا فضل لنا عليه بشيء من ذلك.
والنوع الثاني من المواقف، التي تساهم في يقظة القلوب يكمن في إدراك أخطائنا ومعاصينا وذنوبنا من خلال التأمّل الدقيق في مخاطرها وعواقبها وتبعاتها. ويحصل ذلك بفعل يقظة الوجدان والاطّلاع على ما جاء في الذكر الحكيم وكلام المعصومين حول الذنوب وآثارها. وعلامة تأثير هذه المعرفة أن نجدّ في تدارك هذه المخاطر، ونسعى للخلاص من آثارها والتحرّر من أسرها، بكل ما أمكننا. فلا نتهرّب من التفكّر والتدقيق في أفعالنا، بل نمحّصها ونتعمّق فيها، لأنّنا نعلم أنّ النجاة تكمن في ترك الذنوب والسعي لاجتنابها؛ ولأجل ذلك، نحتاج إلى تعظيم الله تعالى في نفوسنا بعد إدراك عظمته بعقولنا، فيعظم الذنب في أعيننا؛ لأنّ مخالفة العظيم المطلق أسوأ من أي شيء في الوجود. وقد جاء في الأحاديث عن رسول الله (ص): "يَا أَبَا ذَرٍّ لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْت".[4]
ولو علمنا كيف يكون عصيان الله العظيم لتفتّتت قلوبنا من ذلك. كما نحتاج أيضًا إلى معرفة أنفسنا بالعجز والفقر، وأنّها إذا تُركت وشأنها فهي أمّارة بالذنوب ميّالة إلى الباطل، فلا نعصمها ولا نبرّئها، بل يزداد اتّهامنا لها كما هو حال المتّقين الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام): "فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُون.. نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة".[5] وفي ظلّ هذا الظنّ والاتّهام نكتشف المزيد من العيوب والأخطاء والمعاصي، ويكون ذلك مقدّمة مهمّة لاستمرار اليقظة.
ونحتاج أيضًا إلى تصديق وعيد الله تعالى وسطوته ونقمته وجبروته، بدفع كلّ الشبهات والأفكار الخاطئة المرتبطة بالعقاب الإلهيّ والمصير والحساب. فكم قد علق في أذهاننا من أفكار جعلتنا نستخف بموقف العرض الأكبر يوم القيامة، واعتبرنا أنّ الجنّة مضمونة لنا، ربما لأنّنا لم نفهم حقيقة الشفاعة، أو لم نعرف معنى الولاية.
أمّا النوع الثالث من المواقف، التي تساعدنا على إبقاء شعلة اليقظة، فهو ما يتطلّب الانتباه إلى الفرص والنفحات الإلهيّة، التي تمرّ مرّ السحاب. وقد جرت حكمة القدير سبحانه أن تكون كذلك لكيلا نعتاد عليها، فنغفل عنها وتقسو قلوبنا. وهذا ما يستدعي أن نتأمّل في ماضينا وما أضعناه، لكي نصبح أكثر انتباهًا وترقّبًا لما سيأتي. وعلامة التوفيق في هذا أن نسعى لتدارك ما فات وإعمار ما يبقى. ولأجل ذلك نحتاج إلى ما يعرّفنا على هذه الفرص ويفتح أعيننا على كل ما يمكن أن تستتر فيه النفحات الربّانيّة التي جاء بشأنها، عن رسول الله(ص): "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا"[6].. وما أكثر الأيام والمناسبات المعنوية كأشهر النور وليلة القدر وغيرها من المواقف، التي يمكن للإنسان أن يأخذ منها ذخرًا لآخرته. وتعبق كتب الأدعية بذكر ما ورد عن أولياء الله بشأن المناسبات والأيام التي يكون فيها لله عناية خاصّة. وكلّما راعينا حرمة الله وعظم الخالق في أنفسنا، ازداد اهتمامنا بكل ما يرتبط به. ولا شيء يعين على هذا الهم والاهتمام مثل صحبة السالكين ومرافقة الصّالحين. وإنّما يقدر أحدنا على ذلك إذا تحرّر من العادات والتقاليد التي تكبّله وتعمل على جعل حياته منقادة لاعتبارات الناس وآرائهم. فمن بقي أسير العادات لن ينطلق في آفاق العبادات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. مكارم الأخلاق، ص 447.
[2]. سورة سبأ، الآية 46.
[3]. الصحيفة السجادية، من دعائه (ع) إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر.
[4]. مستدرك الوسائل، ج11، ص 330.
[5]. نهج البلاغة، خطبة المتقين، ص 304؛ ص 306.
[6]. بحار الأنوار، ج68، ص 221.
محمود حيدر
السيد عادل العلوي
د. سيد جاسم العلوي
الشهيد مرتضى مطهري
السيد عباس نور الدين
السيد محمد باقر الحكيم
عدنان الحاجي
الشيخ حسين مظاهري
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
بصدد التنظير لقول عربي مستحدث في نقد الاستغراب (1)
التّعامل مع سلوك الأطفال، محاضرة لآل سعيد في بر سنابس
القلب المنيب في القرآن
ماذا يحدث للأرض لحظة اختفاء الشمس؟ الجاذبية بين رؤيتين
{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
لماذا نحتاج إلى التّواصل الفعّال مع الله؟
أطفال في يوم الفنّ العالمي يزورون مرسم الفنّان الضّامن
ملتقى الأحباب، جمعيّات القطيف تتكاتف لخدمة الأيتام
تجربتي في إدارة سلوكيات الأطفال، كتاب للأستاذ حسين آل عبّاس
الفروق الحقيقيّة بين المكي والمدني