فجر الجمعة

الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام

تحدّث سماحة الشيخ عبدالكريم الحبيل في خطبة له بعنوان: حول أخلاق السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وذلك 15-11-2024 في مسجد الخضر عليه السلام في جزيرة تاروت - الربيعية.

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي هدانا لحمده، وحبانا بدينه، واختصنا بملته، وسلك بنا سبل إحسانه. حمداً يتقبله منّا ويرضى به عنّا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن وليّاً من الذل، وكبّره تكبيراً.

وأشهد أن حبيبه المجتبى، وأمينه المرتضى، المحمود الأحمد، المصطفى الأمجد، أبا القاسم محمدًا صلى الله عليه وآله، عبده ورسوله. أرسله نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، فبالغ في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة. اللهم فصلِّ عليه وآله أفضل ما صليت على أحد من خلقك من الأولين والآخرين، وبلّغه منا تحيةً كثيرةً وسلاماً.

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها أفضل زاد، وأحسن عاقبة في المعاد. ولا تغرنّكم الحياة الدنيا، فإنها لم تُخلق لنا دار مقام، بل خُلقت لنا دار مجاز لنتزوّد منها صالح الأعمال إلى القرار. فتزوّدوا منها ما تُحرزون به نجاة أنفسكم غداً، فليس بين أحدنا وبين الجنة أو النار إلا الموت. لن ينزل بنا إلا وأن أبلغ الحديث عظةً كتاب الله.

ألا وإن أبلغ الحديث عظةً كتاب الله: "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، ولَلدّارُ الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون؟" جعلنا الله وإياكم من خيرة عباده المتقين الصالحين، وثبّتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إنه سميع مجيب.

أيها الإخوة الكرام والأخوات المؤمنات، تطلّ علينا هذه الليلة ذكرى الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام، وعلى أبيها وبعلها وبنيها. وبهذه المناسبة، نتقدم برفع العزاء إلى مقام سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان، وإلى مراجعنا العظام، وإلى جميع أبناء الأمة الإسلامية كافة، سائلين العلي القدير أن يعظّم لنا ولكم الأجر، ويجزل لنا ولكم المثوبة، إنه سميع مجيب. وحريٌّ بنا ونحن نعيش هذه الأيام الفاطمية، ذكرى وفاة تلك السيدة العظيمة، أن نجعل حديثنا مستوحًى من نمير تلك الشخصية العظيمة والمرأة الفريدة، سيدة نساء الأولين والآخرين، فاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وآله.

وعلى هذا، أرجي موضوعي "القلب السليم في القرآن الكريم" للجمعة القادمة، موضوعي تحت عنوان: "أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام". قال تعالى مخاطبًا نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله: "وإنك لعلى خلق عظيم". هذا المدح ليس مدحاً لعظماء الدنيا ولا لعلماء الدنيا، ولا لأي مخلوق مهما بلغ شأنه في هذا العالم. إنما هو مدح وثناء من العلي الأعلى، من الحق تعالى، من الله سبحانه وتعالى إلى نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.

وفاطمة بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله. والبضعة لا شك أنها تحمل صفات وخلالاً مما في ذلك المخلوق الذي تكونت منه، والذي جاءت إلى الدنيا عن طريقه. فاطمة بضعة من محمد صلى الله عليه وآله، وأمها خديجة. وما أدراك ما خديجة؟ سيدة قومها، بل هي واحدة من سيدات نساء العالمين. كما جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "كمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة ابنة محمد"..

إذاً، الأثر التكويني والتربوي لفاطمة عليها السلام كان له الدور الكبير في تكوين تلك الشخصية العملاقة، وتلك المرأة التي أصبحت سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين. وإذا كان الله سبحانه وتعالى يمتدح ابنة عمران بأنها كفلها زكريا وأنبتها نباتًا حسنًا، ففاطمة عليها السلام كفيلها ليس نبيًّا فقط، وإنما رسول، وليس رسولًا عاديًّا بل من أولي العزم، وليس فقط من أولي العزم بل أفضل الأنبياء والمرسلين، بل أفضل الخلق كافة من الأولين والآخرين، الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله.

ونبتت في ذلك البيت خير نبات، إذًا الأثر التكويني والتربوي والتعليمي والبيتي مصطفاة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. ومن تلك الأخلاق نقف على بعض أخلاقها عليها السلام أو على شذرات من أخلاقها، حيث الوقت لا يسعنا للتفصيل:

 

الإيثار

الإيثار هو تقديم حاجة الآخرين على حاجة الذات، وهو عكس الأنانية. فالأناني هو الذي يقدم حاجته على حاجة الآخرين، أما المؤثر فهو الذي يقدم حاجة الآخرين على حاجته، مع أنه في أمس الحاجة إلى ما يقدمه. فاطمة عليها السلام كانت من أولئك الذين قال تعالى عنهم في كتابه الكريم: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون".

ويتجسد ذلك الإيثار فيما يرويه ابنها الإمام الحسن عليه السلام حيث قال: "رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح -يعني تدعو ليلتها- وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أماه، لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار".

هذا الإيثار في الدعاء لله سبحانه وتعالى، حيث لا تطلب شيئًا لنفسها، وإنما كل ما تطلبه هو لإخوانها المؤمنين والمؤمنات، تقدم الآخرين على نفسها في الدعاء. وهذا أيضًا من موجبات استجابة الدعاء. حتى أنه ورد: "من دعا لأربعين مؤمنًا ثم سأل الله سبحانه وتعالى، استجاب الله له مسألته".

ومن ذلك الإيثار في الطعام، كما في قصة نزول سورة "هل أتى". والقصة معروفة أن الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام مرضا، فنذر علي وفاطمة وفضة أن يصوموا ثلاثة أيام لشفاء الحسنين عليهما السلام. فصاموا ثلاثة أيام، وفي اليوم الأول من إفطارهم جاءهم مسكين، فآثروه بطعامهم. وفي اليوم الثاني جاءهم يتيم، فآثروه بطعامهم. وفي اليوم الثالث جاءهم أسير، فآثروه كذلك بطعامهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة "هل أتى"، التي من آياتها قوله تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا". هذا من الإيثار، أن الإنسان يؤثر ولو كان به خصاصة.

 

العفاف

وقد ضربت فاطمة عليها السلام أروع الأمثلة في العفاف، حيث سألها أبوها عن عفاف المرأة، فردت عليه: "ألّا ترى الرجال ولا الرجال يروها". وهي صورة من صور العفاف، أي أن تكون المرأة وإن خرجت لبعض شؤونها، لا تُعرف بين الرجال، بحيث لا يكون بينها وبينهم اختلاط أو معرفة تؤدي إلى انتقاص حشمتها. ولم يكن معنى العفاف أن تبقى حبيسة الدار، بل كانت فاطمة عليها السلام تخرج وتشارك في الغزوات، كما شاركت يوم أحد في تضميد جراح المقاتلين. فكان عفافها عليه السلام بمعنى أنها تخرج بحشمة ولا تُعرف بين الرجال بمشيتها أو شخصيتها. ومن عفافها أيضًا أنه استأذن أعمى على فاطمة، فحجبته. فقيل لها: إنه أعمى لا يراكِ! فقالت عليها السلام: "إن لم يكن يراني، فإني أراه، وهو يشم الريح". فحجبته لتأخذ بأعلى درجات العفاف.

 

برّ الوالدين

ومن علو أخلاقها برّها بأبيها، فقد خدمت أباها بعد وفاة أمها خديجة عليها السلام حتى سماها أبوها "أم أبيها".

 

خدمة زوجها وأبنائها

فاطمة عليها السلام لم تقل: أنا ابنة رسول الله وأمي خديجة سيدة قريش. بل كانت خير زوجة وخير أم، وعاشت في كنف زوجها علي عليه السلام بكل تواضع.

ويُروى عن الإمام الصادق عليه السلام: "تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الخدمة، فقضى على فاطمة ما دون الباب، وقضى على علي بما خلفه. فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله، بأني كُفيت رسول الله تحمُّل رقاب الرجال".

 

التواضع والزهد

كانت عليها السلام تعيش مع علي عليه السلام حياة زهد، إذ لم يكن على فراشها إلا جلد كبش تنام عليه.

 

الخشوع لله ومخافته

فكانت تخشى الله خوفًا عظيمًا. وجاء في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن الحق تعالى خاطب ملائكته قائلًا: ملائكتي، انظروا إلى فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي. أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار".

 

وختامًا، هذه فاطمة عليها السلام وهذه أخلاقها، وينبغي بخطبائنا وأعزائنا أن يقدموا فاطمة كمثال للمرأة التي يُحتذى بها، للزوجة المثالية، وللأم القدوة، وينثروا فضائلها وأخلاقها وصفاتها بين الناس.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وارزقنا محبتها وولايتها وشفاعتها، واجمعنا معها في مستقر رحمتك، إنك سميع مجيب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: "إنا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر".

 وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.